وديع الصافي غُيّبت ذكراه… وبقي صوت “جبلنا”

زياد سامي عيتاني

مرت أمس بهدوء وصمت مخجلين الذكرى التاسعة لرحيل العملاق وديع الصافي “مطرب المطربين العرب” كما لقبه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، من دون أن تتذكره وزارة الثقافة ولا المحطات التلفزيونية والاذاعية ولا النقابات الفنية، متناسية من حفر برخامة صوته إسمه على “جبلنا”، ولا يزال صداه القوي والعذب ينبسط ويتموج على أدراج بعلبك بمقاماته وخاماته البعيدة والعميقة، التي لم يجدها أحد سواه.

بفضل ما قدمه الكبير وديع الصافي من أغان وألحان خاصة بلونه الغنائي وحنجرته الذهبية وصوته الجبلي الرخيم، يعتبر عن جدارة وإقتدار أحد مؤسسي تيار الأغنية الكلاسيكية اللبنانية بألحانه البسيطة السلسة. إمتلك 23 مقاماً صوتياً فكان أقوى المقامات في الأصوات العربية، غنّى بمقدرة فائقة، مستنداً إلى صوت فائقِ القوة والصفاء، قادر على بلوغ مقامات “السوبرانو” العالية، ونقيضها مقامات القرار في أسفل السلم الموسيقي، والتنقل بينهما في يسرٍ فريد.

وعلى الرغم من أنه بمجرد ذكر إسم وديع الصافي، يذكر إسم لبنان، الذي أسس له بحنجرته الذهبية هوية خاصة للأغنية، ها هو لبنان الرسمي والفني والاعلامي لا يذكره ولا يتذكره في ذكرى رحيله!.

موقع “لبنان الكبير” يستحضر ذكرى الكبير وديع الصافي، من خلال الاضاءة على مسيرته الفنية الحافلة والزاخرة بكنوز من الأعمال الفنية من أغان وألحان ومسرحيات ومهرجانات، والتي تبقى على مر الأجيال “أرزة” تخلد زمن الفن اللبناني الراقي.

•النشأة في عائلة فنية بالفطرة:

ولد وديع فرنسيس المعروف بوديع الصافي في قرية نيحا الشوفية في 1 تشرين الثاني 1921. وهو إبن بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس (رقيب في الدرك اللبناني)، والإبن الثاني في ترتيب العائلة المكوّنة من ثمانية أولاد. عاش طفولة متواضعة غلب عليها طابع الفقر والحرمان.

يقول عن أبيه وأمه إنهما كانا فنانين يتقنان الأغنية اللبنانية الشعبية، ويغنيان الزجل والعتابا وأبو الزلف، وجاء صوته مزيجاً من صوتيهما. وهذا ما جعل شغفه بالموسيقى يسيطر على كل شيء في حياته. فمنذ صغره أحبّ الغناء، وتعلّم العزف على العود، وكان معلّمه الأول خاله الدركي نمر شديد العجيل الذي يعشق الطرب، وكان يصطحبه معه للعزف في بعض السهرات. وبعد إنتقال العائلة الى بيروت تولّى المهمة ألكسي اللاذقاني، في حين أن جده هو أستاذه الأول الذي تعلّم منه الميجانا والعتابا.

وعُرف الطفل وديع بجمال صوته في سن العاشرة، وغنى لأول مرة في عُمر الثامنة أمام الست نظيرة جنبلاط بطلب من أبيه.

•حلاق وبائع قبل الفن:
في العام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت وإنتسب إلى مدرسة “دير المخلص”، فكان المنشد الأوّل في جوقتها ونجمها الكنسي.

لكنه لم يتمكن من متابعة دراسته، بحيث توقّف بعد ثلاث سنوات لظروف إضطرته إلى دخول سوق العمل من أجل مساعدة الوالد في إعالة العائلة، فعمل في محل لبيع الألبسة، وآخر لبيع الزيت، كما عمل في محل أحذية وصالون حلاقة، واشتغل في معمل للقرميد والزجاج. لكن هذا لم يجعله يفارق فنه، ويقول إنه خلال عمله في دكان بيع الزيت كان أصحابه يخيّرونه بين العمل أو الغناء والعزف على عوده الذي لم يفارقه، فكان يختار الثاني.

•الأول في مسابقة إذاعية:

كان لأخيه توفيق الفضل الأكبر في تشجيعه على التقدم الى مسابقة للمواهب الشابة في إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، ونصحه كثيراً وأصر عليه، لأنه كان متردداً فكيف له أن يشارك وهو ابن الضيعة إلى جانب أبناء بيروت الثقافة والفن، كما يقول.

وأمام إصرار أخيه، تقدم وديع الشاب ذو الـ16 ربيعاً بأغنية من ألحانه في ذلك الوقت، فشكلت تلك المحطة عام 1938، الانطلاقة الفنية له، حين فاز بالمرتبة الأولى في المباراة لحناً وغناءً وعزفاً، من بين أربعين متبارياً، عندما غنّى “يا مرسل النغم الحنون” للشاعر (المجهول آنذاك) الأب نعمة اللّه حبيقة. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من: ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحي الدين سلام، الذين اتفقوا على اختيار إسم “وديع الصافي” كإسم فني له، نظراً الى صفاء صوته.

•بداية أغانيه اللبنانية:

بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. هنا كان للشاعر أسعد السبعلي دور مهم في إعطاء أغنيته هوية مميّزة، وكانت البداية مع “طل الصباح” و”تكتك العصفور” عام 1940، التي أعقبتهما مجموعة من أجمل ما غناه.

•الإخفاق في أول زيارة لمصر:

بحلول أربعينيات القرن الماضي كان لبنان يعاني من الانتداب الفرنسي، فيما كانت مصر قبلة الفنانين العرب، فقرّر وديع أن يجرب حظّه فيها، وكان ذلك عام 1944 وساعدته واستقبلته الفنانة نور الهدى.

وفي تلك الرحلة، كان أول لقاء جمعه بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي قال حين إستمع إليه: “من غير المعقول أن يملك أحد صوتاً كهذا”.

لكنه لم يوفّق هناك ولم يمكث طويلاً، وعاد أدراجه إلى بيروت ليُحيي الحفلات والسهرات ويرافقه عزفاً الشقيقان عاصي ومنصور الرحباني.

•العصر الذهبي في بيروت:

في النصف الثاني من القرن العشرين لم تعد القاهرة المركز الوحيد لتطوير الموسيقى العربية، فقد أصبح لها فروع من أهمها النهضة الموسيقية في بيروت، التي قامت على ملحنين عظماء، كان لا بدّ لهم من أصوات عظيمة أيضاً مثل وديع الصافي الذي تمنّى الكثيرون التلحين له.

وبدأ يشارك في “الاسكتشات” الغنائية الاذاعية مثل “عروس المواسم” التي قدّمها مع فيروز وصباح وسعاد هاشم.
وفي أواخر الخمسينيات، بدأ بالعمل مع العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية، إنطلاقاً من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت فيروز ونصري شمس الدين، والأخوين رحباني وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وعصام رجّي وغيرهم.

•أغانيه الخالدة:

غنّى وديع الصافي للعديد من الشعراء، والملحنين أشهرهم الأخوان رحباني، توفيق الباشا، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش ورياض البندك. ولكنّه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه لأنّه الأدرى بصوته، كما كان يقول، ويُدخل المواويل في أغانيه، حتّى أصبح مدرسة يُقتدى بها، بحيث كان له الدور الرائد في ترسيخ قواعد الغناء اللبناني، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد، وأصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في بلده وحسب، بل في العالم العربي أيضاً.

من أغانيه الأكثر حضوراً في الذاكرة: “لبنان يا قطعة سما”، “طلّ الصباح”، “صرخة بطل”، “الليل يا ليلى”، “شاب الهوى وشبنا”، “مريت ع الدار”، “لوين يا مروان”، “عصفورة النهرين”، “الله يرضى عليك يا ابني”، “الله معك يا بيت صامد بالجنوب”، موال “يا مهاجرين ارجعوا”، “طلّوا حبابنا”، “سهرة حب”، “يا شقيق الروح”، “عندك بحرية”، “يا عيني عالصبر” و”على اللـه تعود”… إضافة إلى التراتيل الكنسية، ومنها “اللهمّ اسمع أقوالي” وغيرها.

•المهرجانات الغنائية:

شارك وديع الصافي في المهرجانات الغنائية الآتية: “العرس في القرية” (بعلبك 1959)، “موسم العزّ” و”مهرجان جبيل” (1960)، “مهرجانات فرقة الأنوار” (1960 – 1963)، “مهرجان الأرز” (1963)، “أرضنا إلى الأبد” (بعلبك 1964)، “مهرجان نهر الوفا” (1965)، “مهرجان مزيارة” (1969)، “مهرجان بيت الدين” (1970- 1972)، “مهرجان بعلبك” (1973 – 1974).

• الأفلام السينمائية:

كذلك شارك في أكثر من فيلم سينمائي، من بينها: “الخمسة جنيه”، “غزل البنات”، “موّال” و”نار الشوق”.
غاب العملاق وديع الصافي منذ تسع سنوات، وغابت ذكراه عن أذهان المعنيين، لكنه يبقى أيقونة لبنان، وتبقى أغانيه الراقية والرخيمة تتردد وتسمع وتدرس، طالما بقي لبنان الذي عشقه كعشقه لفنه.

شارك المقال