بين بيروت وكورنيشها البحري… حكايات سحرية

زياد سامي عيتاني

بين بيروت وكورنيشها البحري علاقة سحرية، عمرها من عمر صخور بحرها الأبدية وشمسها الذهبية وبيوتها القرميدية وأشجارها الأزلية… علاقة لا يجيدها إلا من تنشق لطائف نسائمه ورطوبة هوائه، ولامست جسده ملوحة رذاذ أمواجه، وتزحلق على أعشابه الصخرية، وأبحر بقواربه الخشبية.

كورنيش بيروت البحري، مترامٍ بين الصخور، تحتضنه أمواجه الأليفة بدفء، مهما كانت عاتية، ملاذٌ لأهل المدينة المزدحمة، متنفس للناس المخنوقين من الزحف الَمديني، والمحاصرين بالهجمة العمرانية.

كل صخرة، كل موجة، كل شجرة، تحمل حكايات وذكريات، لم تمحها كل العواصف العاتية، ولا تعاقب الزمن والسنين التعبة.

تاريخ نشأة الكورنيش:

وعن تاريخ نشأة هذا الكورنيش، ننقل عن المؤرخ المحامي عبد اللطيف الفاخوري: “لما جاء عبد الخالق نصوحي بك متصرفاً على بيروت سنة 1886م رأى ضرورة تحسين طرقات المدينة، فشرع من الطريق الممتد من البحر حذاء خان انطون بك الى محلة ميناء الحسن فرأس بيروت فالفنار (المنارة) وصولاً الى محلة شوران. كما شرع بفتح الطريق التي تمر من أمام الجامعة الأميركية الى قرب الفنار. ثم أوصلت تلك الطريق التي تمرّ بساحل البحر بفتح طريق الى جهة بيت قريطم وبيت طبارة الواقعين في أعالي شوران (محلة قريطم اليوم)…”.

يذكر في هذا العرض، أنه عندما جاء مدحت باشا والياً على سوريا سنة 1879م، قدم الى بيروت وعلم أن محلة رأس بيروت طيبة الهواء، واسعة المجال محرومة من طريق تمرّ بها العربات وباقية على طرقها القديمة، فأوعز الى البلدية التي كانت في حينه برئاسة إبراهيم فخري بك ابن محمود نامي بك، بفتح طريق من المستشفى البروسي (الألماني قرب الجامعة الأميركية) الى المنارة عرضه عشرون ذراعاً وابتاع أرضاً هناك ترغيباً لترقّي أراضي المحلة.

“ريفييرا” لبنان:

فالكورنيش البحري لبيروت، هو جزء لا يتجزأ من ذاكرة بيروت القديمة والجديدة.

فمن ذاكرة بيروت القديمة، إلتصق الكورنيش بهوية العاصمة في أوج إزدهارها، اذ شكّل نقطة إستقطاب لتجمع أرقى وأفخم الفنادق، التي بدأت صغيرة لاستقبال زوار لبنان من الأجانب مطلع القرن العشرين الماضي، إلى بناء بيوت ذات هندسة تراثية لبنانية، وقيام صرح جامعي هو الأول في الشرق الأوسط “الجامعة الأميركية”، ليجمع، بدءاً من الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في محيطه، عدداً من السفارات الأجنبية.

فيما الكورنيش، مع هذه التحولات العمرانية بات يعرف بـ “ريفييرا” لبنان، لمشابهته بـ “ريفييرا” الشاطئ الفرنسي في “الكوت دازور”.

و”ريفييرا” لبنان، هذه الواجهة البحرية، وبما تمتعت به من مواصفات شكّلت، وعلى مرّ السنين المتنفس الأساس لأبناء العاصمة وضواحيها، ونقطة جذب سياحية لكل زوار لبنان من عرب وأجانب.

ملتقى البيروتيين:

الكورنيش البحري كان ملتقى البيروتيين، يتخذون من مساحته المتحررة والمفتوحة واحة يستريحون فيها من هموم الحياة، يقصدونه للتنزه والترفيه عن النفس، وبحثاً عن الراحة والطمأنينة والهدوء والهواء النقي وأشعة الشمس نهاراً وضوء القمر ليلاً، يتفيأون بأشجاره الأليفة المحفور على جذوعها مئات الأسماء والقصص، والمنتشرة بانسيابية جمالية، تزيد من روعته، ليتحول إلى لوحة طبيعية، تعجز ريشة أي فنان مهما بلغ من الإبداع عن تصويرها.

‫كان يجذب كل الناس من كل الفئات، بلا تكليف ولا تفاوت، جميعهم يتحلون بالرقي والأناقة السلوكية، فبحر بيروت لكل الناس، ونقطة لقاء لهم جميعاً، ليختصر المجتمع البيروتي بأكمله.

‫كانت له طقوسه المنتظمة بعفوية، ‫حركته دائمة ليلاً نهاراً، منذ طلوع الفجر إلى ما بعد منتصف الليل، يضج بالحياة المفعمة، مختزلاً نبض المدينة ونسيجها الاجتماعي المتناقض – المنسق والمنسجم في آن معاً، والأكثر تعبيراً عن الحياة اليومية فيها.

ممارسو رياضة المشي:

لعل رواد الكورنيش ممن اعتادوا يومياً ممارسة رياضة المشي هم الأكثر وفاء له في كل الأيام، لا يهجرونه ولا يتخلون عنه، لا في حر الصيف، ولا في برد الشتاء ومطره. فلا يخلو من رواده، لكل منهم موعده التقليدي معه، وكأنه عقد إتفاقاً معه، منهم من يمارس رياضته المفضلة في فترة الصباح، ومنهم من يمارسها خلال فترة بعد الظهر أو المساء، على طول الكورنيش البحري، مستمتعين فرحين منطلقين، على إيقاع أصوات الموج.

فلو كان هذا الكورنيش يتكلم، لكان لديه الكثير ليقوله عن صدى وقع أقدام أجيال وأجيال متعاقبة من المشاة، التي أمضت أوقاتاً طويلة ترتاده بإخلاص ووفاء، من دون إنقطاع، حتى باتت بينهم وبينه علاقة حميمة يومية لا تنقطع.

هواة الصيد “بالقصبة”:

وترسم “صنارات” الصيادين المتشابكة على طول الكورنيش لوحة رائعة، تلفت نظر المارة.

فعلى صخوره المتناثرة، يتوزع هواة صيد الأسماك، الذين يقصدون البحر لملاقاة متعتهم، حاملين سلة القش، وكرسياً صغيراً، وقصبة بلدية يربط فيها خيط من البلاستك وفي أسفله عوامة من الفلين و”صنارة” أو “غدارة” لايقاع السمكة في الفخ.

ينتشرون على الصخور بكل إنتظام، لكل واحد منهم مكان خاص به على جزء من صخرة إختارها بدقة متناهية، كأن ثمة إتفاق أخلاقي بينهم على خارطة إنتشارهم، يتربعون عليها كأنها مملكتهم، من دون أن يستهويهم إزدحام الكورنيش، لأنهم قرروا إدارة ظهورهم للحياة وأعبائها الثقيلة.

سعادتهم بوسع البحر، الصيد بالنسبة اليهم متعة وترفيه وترويح عن النفس، ووسيلة لاكتشاف جماليات البحر والتعرف على أسماكه بكل أشكالها وأصنافها، علاوة على ذلك يوفر لهم الصيد تعلم الصبر وإستلهامه والمثابرة والاعتماد على النفس.

فهذه الهواية التي تتحول مع الزمن إلى ما يشبه “الهوس”، عندما يعتاد عليها، تصبح جزءاً لا يتجزأ من يومياته، ولا يعود باستطاعته تركها أو التخلي عنها.

“الدرابزين” حزام الأمان:

كان يفصل بين الكورنيش والبحر “درابزين” حديدي، (قبل إستبداله بالألمنيوم)، يعلو نحو نصف متر، ليشكل حزام أمان، مصنوع ببساطة من ثلاثة  قساطل دائرية مرتفعة عن بعضها البعض، وتفصل بينها ألواح حديدية، مطلية باللون الأزرق، حتى يخال للمارة أنه إمتداد متناسق لزرقة البحر والسماء، من دون أن يشعر أحد أنه كان عازلاً للحؤول بينهم وبين بحرهم.

كان هذا “الدرابزين” متعدد الاستخدامات.

فكم كان يقف على حافته أناس وأناس، لالتقاط صورة يكون البحر الطبيعي خلفية لها من مصور متجول يرتدي بذلة سوداء في “عز الشوب” بواسطة “كاميرته العجيبة” (!) حينما كانت تُخرج صوراً فورية.

كذلك كان مصدر أمان للعاشقين زمن الصدق، حينما يقف شاب وصبية بكل إحترام أمامه، كعصفوري حب، مستوحين من “الأزرق الواسع” كلمات منمّقة يتبادلانها للتعبير عن مشاعرهما الجارفة كالأمواج التي لا حدود لها، تماماً كالأفق البعيد للبحر اللذين يقفا على قارعته، فتصبح قصيدة حب.

أما من ضاقت به الأيام وسدت في وجهه السبل، فيلجأ إلى ذلك “الدرابزين” يتكئ عليه، مرخياً تعبه، يجد فيه الملاذ الآمن، كأنه حضن أم دافئ، يتأمل حركة الموج المتدفق، يطرب لسماع “فقشه”، ينظر إلى الأفق البعيد الذي لا أفق له، يلفظ أحزانه على الزبد المتكاثر، عله يتمكن من محو بعضها، يتبادل أطراف الحديث بصمت مع البحر كصديق وفي مخلص، لا ينفر منه ولا يتخلى عنه، يشكو له همومه وأثقاله وقساوة الحياة والناس والزمن، “يفش  خلقه” ويرمي فيه هموم عمره.

كم يختزن هذا البحر المتمايل والمتماوج أحياناً والهائج الثائر أحياناً أخرى من آثار وأسرار وأخبار، ومن هموم الناس وأحمالها وأحلامها! يوم كان بالنسبة اليهم الونيس والأنيس والجليس، يبادلهم المشاعر والأحاسيس، ويتفاعل مع جوارحهم وجراحهم، بما يشبه حركة المد والجزر.

شارك المقال