“المقاصد”… من المؤسسين إلى المؤسسة، منارة علم ومعرفة وتنوير (1)

زياد سامي عيتاني

منذ صدور قرار إستبدال إسم مدرسة “خديجة الكبرى” التابعة لـ “جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية”، بـ “ليسيه المقاصد”، شنت حملة ضروس على قرار الجمعية من مختلف الأوساط البيروتية، مطالبة بإعادة القديم إلى قدمه، حفاظاً على تاريخ وتراث الجمعية ومؤسساتها، التي تشكل جزءاً أساسياً من تاريخ بيروت المجيد، خصوصاً وأن ثمة مقولة يتناقلها البيارتة من جيل إلى جيل بأن “بيروت تقوم على ثلاث ركائز هي: رئاسة الحكومة ودار الافتاء والمقاصد”.

فـ”جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” لها في ضمير البيروتيين ووجدانهم مكانة خاصة ومميزة، نظراً الى فضائلها منذ 148 عاماً على المجتمع البيروتي، على الصعد التعليمية والصحية والاجتماعية والدينية، بحيث لعبت منذ تأسيسها وطيلة تاريخها العريق والطويل، دوراً رائداً في نهضة المجتمع البيروتي وتنويره وخدمته، وتنميته تربوياً وثقافياً وإجتماعياً، وناشرة المعرفة وإشاعة التعليم في أوساطه، عبر مؤسساتها الناشطة في المجالات كافة، فساهمت بفاعلية في نهضة بيروت “الحضارة والتاريخ”، مع المحافظة على هويتها وإنتمائها، وناشرة الفضيلة ومكارم الأخلاق ومبادئ الدين الحنيف وقيمه على أبنائها، الذين تخرجوا من مدارسها، وتبوأ العديد منهم أرفع المناصب وأعلاها في لبنان وخارجه.

وبانتظار أن تسفر جهود الخيّرين من الحكماء والعقلاء عن معالجة ما آلت إليه الأمور بهدوء وموضوعية، فإننا نلقي الضوء على تاريخ “المقاصد” المشع علماً وتنويراً في أرجاء العاصمة بيروت، على أجزاء متتالية:

ظروف نشأة “المقاصد”:

نشأت “جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية” في العام 1875، بهدف إنشاء مدارس قادرة ومتمكنة، أسوة بمدارس البعثات التبشيرية ذات المنابت والمشارب المتعددة، خصوصاً وأن تعليم الارساليات والتعليم الكاثوليكي المحلي، قد غطّيا المرحلة الابتدائية وتلك المتوسطة وكذلك الثانوية، إلى جانب التعليم الجامعي، بعد أن نهضت الكلية السورية الانجيلية – الجامعة (الجامعة الأميركية لاحقاً) في العام 1866 وجامعة القديس يوسف في العام 1875 إلى جانب جامعات أخرى في وقت لاحق.

عندها، بدأ المسلمون في بيروت يشعرون بخطر الغزو التعليمي الأوروبي، بأبعاده السياسية والثقافية، مقروناً بتقصير من الدولة العثمانية في اللحاق بركب العلوم، فارتأوا أنه لا بد من مواجهة هذه المخاطر، التي باتت تهدد معتقداتهم وكيانهم في الصميم. وهذا ما دفعهم الى الشعور بأهمية الاعتماد على الذات، والتمويل الذاتي، لمواجهة الغزو الثقافي والتعليمي.

كذلك، كان رجالات بيروت بمعظمهم من فئة التجار، الذين إكتشفوا بحكم خبرتهم أنّ العلم بات التجارة الرابحة، فالمهندس والطبيب والصيدلي والممرض والمترجم والمعلم، باتوا من متطلبات سوق العمل، وعملهم مصدر دخل فعلي لصاحبه، وهذا ما يتطلب إعدادهم مدرسياً، حتى يلتحقوا بعد تخرجهم بالجامعات، للتخصص في مجال من مجالات التعليم العالي.

التأسيس:

في سنة 1292 هجري (1875م)، كانت مدينة بيروت لا تزال متصرفية تابعة لولاية سوريا، حين أصدرت إستانبول فرماناً بتعيين مدحت باشا والياً على سوريا، ورائف بك أفندي متصرفاً على متصرفية بيروت بصورة خاصة، ذلك أن مدحت باشا ورائف بك كانا من أنصار الأفكار الحديثة، ومن الغيارى على نشر المعرفة وإشاعة التعليم في البلاد.

وكان في بيروت يومئذ نائب أي قاضٍ إسمه الشيخ عبد الله جمال الدين، والذي لم يكن يختلف عن الوالي والمتصرف من حيث نزعته الإصلاحية وتطلعاته التعليمية.

وهكذا تعاون الجميع على إعادة الروح إلى “جمعية الفنون”، ولكن باسم جديد وهو “جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية”، وفقاً لما دونه المؤرخ الشيخ طه الولي.

ففي ليلة من غرة شعبان 1295 هـ/1878م كان التأسيس، وكان منزل الشيخ عبد القادر قباني يضم نفراً من الشبان هم بحسب الحروف الهجائية: أحمد دريان، بشير البربير، بديع اليافي، حسن بيهم، حسن الطرابلسي، حسن محرم، خضر الحص، راغب عز الدين، سعيد الجندي، سعيد طرباه، طه النصولي، عبد الله الغزاوي، عبد القادر سنو، عبد اللطيف حماده، عبد الرحمن النعماني، محمود خرما، محمد دية، محمود رمضان، مصطفى شبارو، محمد الفاخوري، محمد اللبابيدي، مصباح محرم، محمد أبو سليم المغربل وهاشم الجمال.

إن الأعضاء المؤسسين للجمعية هم أفراد لم يكونوا متساوين ثقافة ووعياً، ولكنهم تساووا إيماناً وإخلاصاً ومروءة. وأول عمل قاموا به فور تأليفهم الجمعية في تلك الليلة، إنتخابهم عبد القادر قباني رئيساً لها وبشير البربير أميناً للصندوق ومصباح محرم كاتباً لها.

البيان التأسيسي:

وبعد مرحلة التأسيسً صدر البيان التأسيسي الأول لـ “جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية”، ومما جاء فيه: “حمداً لله من يسرنا لتأليف جمعية تقوم بمقاصدنا الخيرية. وكل ميسر لما خلق له، وشكراً يا من وفقت أعمالنا بنياتنا الخالصة الطوية، والأعمال بالنيات، وثناء عليك منا بما أوليتنا من نجاح وهمم راضية مرضية. ولكل أمرئ ما نوى. فظهرنا بمظهر قولك (وتعاونوا على البر والتقوى)، مخلصين لك الأقوال والأفعال في السر والنجوى. لا أمل لنا إلا بوعدك (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، والله لا يضيع أجر المحسنين). وصلاة وسلاماً دائمين متلازمين على من أعلن مقاصدنا بقوله (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة) أفضل أنبيائك سيدنا محمد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، القائل (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وعلى آله وأصحابه السادة الأماجد الذين أسسوا جمعياتهم على خير المقاصد”.

وهكذا يتضح أن المؤسسين لـ “المقاصد” وفي مقدمهم رئيسها أظهروا ومنذ البداية المحافظة على الطهارة والوجدان والصدق والاستقامة، فكانوا الأوائل من بين أبناء الأمة في محبتهم لوطنهم، ولذلك عملوا على إزالة الظروف السيئة، من خلال جمع واردات محلية من أجل عملها المشكور في تكثير عدد المدارس الاسلامية الابتدائية وتحقيق مقصد الاصلاح، على الرغم من صعوبة هذا العمل في بيروت ومحيطها.

(يتبع)

شارك المقال