بيوت الله في بيروت (4): “جامع السرايا” من العجائب الهندسية

زياد سامي عيتاني

على الجهة الشرقية لـ “المسجد العمري الكبير” في باطن بيروت، بنى الأمير منصور عساف التركماني، وهو من الأمراء المعنيين مسجداً في القرن العاشر للهجرة، يعتبر ثاني أكبر مسجد في بيروت حينها، بعد “المسجد العمري الكبير”، وموقعه من الجهة الشرقية على مدخل “سوق سرسق”، مقابل الزاوية الجنوبية للمبنى التاريخي لبلدية بيروت إزاء “شارع ويغان”، الذي كان يعرف قديماً بـ”سوق الفشخة” قبل أن تزال معالمه سنة 1894، بهدف توسيعه وتركيب سكة “الترامواي” عليه، أما واجهته الجنوبية فتطل على شارع فرعي من “سوق الدلالين” سابقاً.

وأقيم الجامع على قطعة الأرض التي كان عليها في السابق مبنى دير كنيسة لأتباع القديس فرنسيس الأسيزي، والتي أقيمت في النصف الأول من القرن الثالث عشر ميلادي.

وأطلق على هذا المسجد إسم “جامع السرايا” و”جامع دار الولاية”، لقربه من سرايا الأمير عساف (إسمه الكامل الأمير منصور بن حسن بن العسّاف التّركماني)، والذي حكم مناطق كسروان وجبيل والبترون وعكار ما بين العام 1523 (بعد وفاة عمّه الأمير قايتباي بن عسّاف) وحتى خَلعِهِ عام 1579، وإتخذ سنة 1572 بيروت مقراً له وبنى سرايا له أو “دار الولاية”، (الدار التي يقيم فيها الوالي).

وظلّت “دار الولاية” قائمة حتى أواخر القرن التّاسع عشر، حينما إشترى السّادة سرسق وتويني السّرايا بالمزاد العلني مقابل 70,050 ريالاً مجيديّاً، وقاموا بهدم ما تبقى منها في حزيران سنة 1882، ليبنوا مكانها “سوق سرسق”.

إلا أن التسمية الرائجة للجامع حتى يومنا هذا، هي “جامع الأمير عساف”، تيمناً ببانيه. وبقدر ما ينطوي على دلائل تاريخية بالغة الأهمية، فهو يحمل أيضاً معالم هندسية ومعمارية على درجة عالية من الرفعة والروعة، بحيث يعتبر بناؤه من العجائب الهندسية في زمن تشييده.

وصفه الرحالة عبد الغني النابلسي بقوله: “إن الجامع مبني على أربعة عواميد، وفوقه قبة عظيمة بها أربع قبب وأربع قبوات، كما تحمل القبة بواسطة أربعة أعمدة. وفي فناء الجامع بركة ماء غزيرة، وله بابان شمالي البناء وشرقي أوسع جعل بصورة منتظمة في سنة 1326”.

وتشير الدراسات إلى أن البابين اللذين ذكرهما النابلسي كانا في السور المحيط بصحن المسجد على الجهة الشرقية المطلة على ساحة المصلى. ونقل باب منهما في وقت لاحق إلى جامع الأمير منذر والآخر إلى جامع عين المريسة.

مسقط الجامع عبارة عن مستطيل طوله 26,70 متراً وعرضه 20,50 متراً، وينقسم إلى جزءين: المدخل وهو عبارة عن رواق مستطيل، ويغطى المسطح الوسط من المدخل بقبة، ويتم تحويل المسقط المربع إلى مثمن عن طريق مثلثات في الأركان.

أما باب المدخل فهو بعرض 1,80 متراً وإرتفاعه 3,50 أمتار، وله عتب مستقيم من الرخام. أما جانبا الباب فقد بنيا بصفوف من الرخام الأبيض والحجر الرملي.

وبالنسبة الى حرم المسجد فقد قسم داخلياً إلى تسعة فراغات. وسقفه عبارة عن قبة مركزية محمولة بواسطة أربعة عقود مدببة ترتكز على أربعة أعمدة من “الغرانيت”، ولكل عمود قاعدة مربعة قليلة الارتفاع، وفي أعلاه تاج من الحجر الجيري، شكلت أركانه بشكل ثلاثة تجاويف، وفي أسفل التاج حلية بارزة بشكل إطارين. والفراغات على المحور الشمالي الجنوبي والمحور الشرقي الغربي مغطاة بقباب صغيرة منخفضة.

وللقبة الوسطى طنبور مثمن، نظم في منتصف كل ضلع شباك معقود بعقد دائري.

وعلى الحائط الشمالي للمسجد سدة خشبية محمولة على أربعة أعمدة من الخشب وهي على إرتفاع 3,75 أمتار، وزينت بزخارف ملونة ونقوش مذهبة.

وعلى الحائط الجنوبي للمسجد يقع محور المحراب، الذي هو عبارة عن قوصرة متعددة الأضلاع، مكسوة بشرائط من الرخام الأبيض والأحمر على التوالي، يكتنفها عمودان من الرخام، لكل منهما تاج مقرنص من ثلاثة صفوف. والقوصرة معقودة بعقد مكسي بالرخام الأبيض والأسود والأصفر. ويدور حول العقد شريط من الرخام الأحمر في الاتجاه الرأسي بشكل مستطيل. وللمحراب طاقية تتكون من تسعة صفوف من المقرنصات المتدلية.

أما منبر “مسجد الأمير عساف” بموضعه على يمين المحراب، فله مدخل معقود بعقد بشكل جزء من دائرة، عليه ستارة من القماش، ويعلو المدخل صفان من المقرنصات. ويوجد على جانبي المحراب، باب معقود أسفل مكان الخطيب، الذي تتوجه قبة صغيرة محمولة على أربعة عقود بشكل حدوة الفرس محمولة على أربعة أعمدة صغيرة، ولا زخارف على الجوانب.

وفي الواجهة الشمالية بالقرب من الركن الشمالي الغربي للمسجد هناك مئذنته التي لا ينفصل جسمها عن كتلة المبنى، بل هي جزء من الحائط الشمالي، ويبلغ إرتفاعها 17 متراً عن سطح الأرض. وهي أسطوانية الشكل، قطرها السفلي أكبر من العلوي، مقسمة إلى ثلاثة أجزاء: الجزء السفلي ومسقطه يمثل شكلاً ذا إثني عشر ضلعاً على قاعدة مربعة. وينتهي هذا الجزء من الأعلى بحلية مستديرة. والجزء الأوسط من المئذنة ينتهي بشرفة محمولة على خمسة صفوف من المقرنصات التي تنتهي بحلية.

أما الجزء العلوي من المئذنة فهو بشكل مستدير ينتهي من أعلى بحلية، وفي هذا الجزء باب في الاتجاه الجنوبي يؤدي إلى الشرفة. وتنتهي المئذنة من أعلى بمخروط، ويتوج المئذنة هلال.

وعلى مدخل الباب الشرقي القديم للمسجد غرفة فيها ضريح أحد الأمراء المعنيين، يرجح أنه الأمير منصور عساف التركماني نفسه باني المسجد.

ويلاحظ أنه ثبتت على الحائط الشرقي للمسجد لوحة من الرخام الأبيض تحتوي ثلاثة أسطر يعلوها العلم العثماني، مؤرخة في محرم 1326 ه – آذار 1908 – وجاء في الأسطر الثلاثة هذان البيتان من العشر:

مسجد أسس بالتقوى وقد         فتحوا باباً به فتح الثواب

باب خير قلت في جوهره        للهدى أصبح هذا خير باب

وكغيره من المساجد أجريت لمسجد الأمير عساف ترميمات متلاحقة، لاسيما عام 1950، ثم في الأعوام 1952 – 1954، كما أعيد ترميمه سنة 1960، وكذلك خضع للترميم والتأهيل تباعاً في الأعوام 1968 – 1976.

ومسجد الأمير عساف لم توفره الحرب خلال سنينها الطويلة، بل إستهدفته ودمرت أجزاء منه وألحقت الضرر البالغ بما تبقى منها، إلى أن أعيد ترميمه وتجديده وإصلاحه بين العامين 1999 – 2000، ليعود إلى سابق عهده عامراً بالصلاة والذكر والدروس وتلاوة القرآن، مع المحافظة على طرازه الهندسي ومعالمه المعمارية.

وتبعاً للأهمية التاريخية التي يتحلى بها “مسجد الأمير عساف”، نسبة الى قدمه وموقعه والمعالم التاريخية القديمة التي كانت تحيطه، فقد صدر في سنة 1936 مرسوم جمهوري صنّفه من الأبينة الأثرية.

شارك المقال