شعرة النبيّ في طرابلس… أمانة تاريخية مقدّسة تُبهج الصائمين!

إسراء ديب
إسراء ديب

لم يُغيّر الطرابلسيّون عاداتهم وتقاليدهم الرمضانية المعتادة على الرّغم من شدّة الهموم المعيشية التي فتكت بنفوسهم وأوضاعهم، ومع قرب انتهاء شهر رمضان المبارك، توافد المئات من المؤمنين والمؤمنات إلى المسجد المنصوري الكبير في طرابلس في آخر جمعة من هذا الشهر للتبرّك بشعرة النبي محمّد (ص)، بحضور مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمّد إمام يُرافقه عدد من الشيوخ من دار الفتوى، إضافة إلى حشد من الصائمين الذين يتهافتون على هذه الزيارة السنوية التي تُتيح لهم رؤية “الأثر الشريف” بعد صلاة الفجر، وكذلك بعد صلاة العصر عند إخراجه للمرّة الثانية والأخيرة.

إنّ هذا التقليد المستمرّ منذ عقود، ينتظره أبناء المدينة بفارغ الصبر سنوياً وبشغف كبير لا يخفى صداه على أحد، فيستقبله الأتقياء وسط ابتهالات ومدائح نبوية وأدعية مختلفة يُصلّون فيها على النبي الذي أخذت هذه الشعرة من لحيته والمحفوظة في غرفة خاصّة طيلة العام.

وتُعدّ هذه الشعرة، هدية ثمينة قدّمها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1842 – 1918) عام 1890 إلى مدينة طرابلس التي تتميّز بتمسّكها بهويتها المحافظة على أبرز الطقوس الدينية والاجتماعية التي تُكرّس الثبات الايماني في قلوب أبنائها، ما يُفسّر تفرّد الفيحاء بهذا التقليد الذي لا تمجده أو تمارسه أيّ مدينة أو محافظة أخرى في البلاد.

وعلى الرّغم من اختلاف التوجهات الدينية لا سيما العقائدية منها حول هذا الموضوع، والتي تتحدّث عن عدم إيجاز التبرّك بالشعرة، إذْ اعتبرت بعض المصادر أنّها “بدعة تُؤدّي إلى الشرك”، يرفض أبناء المدينة وكذلك مرجعياتها الدخول في هذا السجال، إذْ يرون أنّ تقبيلهم للأثر أو الصلاة على النبي لا يُعدّ شركاً بل إحياء لنفوس مؤمنة ولقلب بفطرة سليمة تعلّق بنبيّ الإسلام، لا سيما في وقتٍ تنتشر فيه الفتن والضغائن بين الناس والأمم. كما أنّ مراجع عدّة رأت أنّ فعل التبرّك يعني طلب الحصول على خير ليس المراد أن يخلقه الرسول، بل يخلقه الله من أجله.

تاريخياً، توارث المسلمون شعرات مختلفة للنبيّ محمّد وفق ما توضح مراجع ومصادر تاريخية، وذلك للتبرّك بها أيّ تعظيم شأنها، بعضها يأتي من رأسه، والبعض الآخر من لحيته، وهذا ما يُؤكّده كتاب “الآثار النبوية” لأحمد تيمور باشا، الذي روى أنّ النَّبي كان قد حلق رأسه في حجّة الوداع سنة 10 هـ/ 632 م وقسّم شعره بين أصحابه، غير أنّ الصعوبة تكمن “في معرفة صحيحها من زائفها” حسب الكاتب. ويُمكن القول، إنّ هذه الشعرات المحفوظة إمّا في المتاحف أو المساجد، كانت وزعت في بلدان مختلفة أبرزها: مصر، سوريا، لبنان، تركيا، فلسطين. والأردن

أمّا الشعرة التي أهداها السلطان عبد الحميد الثاني إلى المدينة، فكانت هدية تقديرية لوفاء أبنائها وولائهم له، وذلك وفق كتاب “أسرار الآثار النبوية” لأبو الفضل عماد الدين جميل الحسيني، “وقد وضع الشعرة في علبة من الذهب الخالص، وأرسلت مع أحد الباشاوات في فرقاطة (أيّ سفينة حربية) خاصّة، وعندما وصلت إلى الميناء خرج أهالي المدينة لاستقبالها، وكانت فرحة عمّت المدينة بأسرها”، وزيّنت شوارعها لمدّة 7 أيّام وسط احتفالات بهذه الشعرة النورانية.

ووفق ما يُدوّن مؤرخون تاريخيّون في المدينة، فقد “نزل الباشا العثماني حاملاً العلبة، وتناولها منه الشيخ حسين الجسر ووضعها على رأسه وحملها إلى المسجد الكبير”، مع العلم أنّ الأثر كان أهدي من الأساس لجامع الحميدي حينها (الذي أطلق عليه هذا الاسم بعد تجديده، تيمناً بالسلطان عبد الحميد الثاني)، “لكن الشيخ رشيد ميقاتي أقنع رجالات البلد بوضعه في المسجد المنصوري لأنّه يُعدّ أكبر مساجد طرابلس، ولكون جامع الحميدي بظاهر البلد (أيّ خارج طرابلس) في ذلك الوقت”.

ومنذ عقود، يتلو القرّاء في الغرفة المخصّصة لحفظ الشعرة، القرآن الكريم بعد صلاة العصر طيلة أيّام رمضان، بغية اختتام أجزائه كافة في اليوم التاسع والعشرين بحضور مفتي المدينة، شيوخها ومراجعها الدينية والعلمية التي ما زالت تشكر السلطان العثماني حتّى هذه اللحظة على هذه الهدية القيّمة التي يفتخر بها الطرابلسيّون الذين يستذكرون أمجاد مدينتهم وأفضالها على السلاطين الكبار، ولكن يأسف الكثير منهم لدى مقارنة تلك الأمجاد المرتبطة بمدينة “العلم والعلماء” بواقعها الحالي المختلف جذرياً عن حقيقة الفيحاء التي استنزفت طاقاتها وطاقات أبنائها برغبة سياسية ساقت مصيرها إلى الهلاك.

شارك المقال