أطايب رمضان (2): الحدف (البقلاوة الزغلولية) تاج الحلويات البيروتية

زياد سامي عيتاني

إقرأ الجزء الأول: أطايب رمضان (١): الفتوش عرس الخضروات وشوربة العدس لحم الفقراء

العرب عموماً يحبون الحلواء، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يفطر على الرطب وعلى التمر إذا لم يكن رطباً ويختم به، وقد سأله عبد الله بن عباس: “أي الشراب أفضل؟”، فأجاب: “الحلو البارد”، أي العسل. لذلك، فهم يعتبرون، أن في المعدة زاوية، لا تسدها إلا الحلاوة على أصلها، والآكل إذا إشتهى الحلاوة، ثم فقدها وجد حواسه ناقصة.

وينسب عن العرب أن “كل طعام لا حلواء فيه، فهو خداج”، (أي ناقص غير تام). وقيل عنهم: “كما ختم الطعام بالحلواء، ونسخ الظلام بالضياء”، وكذلك: “الحلواء كلها، حقها أن تؤكل بعد الطعام، لأن للمعدة ثوراناً عقب الامتلاء كثوران الفقّاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت”.

خلال شهر رمضان المبارك يكثر الاقبال بعد الافطار والسحور على تناول الحلويات الرمضانية على إختلافها وتعدد أصنافها، وذلك لأسباب تتعلق بتعويض القيمة الغذائية التي يخسرها الصائم طيلة فترة صومه وإمساكه عن الطعام. ومن أبرز الحلويات الموسمية التي هي من ثوابت المائدة الرمضانية في بيروت والتي تُصنع بجودة ومهارة عاليتين أحد أصناف البقلاوة، التي تعرف بـ “حدف” رمضان، والتي تنفرد بها بيروت خلال الشهر الكريم.

أصل “البقلاوة”:

يؤكد بعض المصادر أن أصل البقلاوة يعود الى القرن الثاني قبل الميلاد في بلاد الرافدين والآشوريين الذين صنعوها من رقائق العجين وحشوها بالفواكه المجففة والمكسرات، ثم أخذها عنهم الأتراك، وأضافوا اليها إضافات من شعوب مختلفة فأخذوا القرفة من الأرمن، وماء الورد من العرب، والعسل من اليونانيين. ويعود أقدم ذكر عن “البقلاوة” في تركيا إلى دفاتر مطبخ قصر توبكابي العائد الى عهد السلطان محمد الفاتح.

لم يوثق بدقة زمن ظهور “البقلاوة” في تركيا، إلا أن غالبية الترجيحات تؤكد أنها ظهرت في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، في شهر رمضان الكريم، بحيث أنها كانت تصنع في مطابخ الامبراطورية العثمانية في قصر توبكابي باسطنبول، وكان يقدمها السلطان إلى “الانكشاريين” في كل منتصف شهر رمضان بمراسم إحتفالية تسمى “موكب البقلاوة”.

هناك رأي آخر يقول إن أول من صنع البقلاوة هم اليونانيون وقدموها كقرابين لآلهتهم في المعابد. وظهر في القرن الثالث الميلادي كتاب مأدبة الحكماء باليونانية، والذي يشير إلى وصفة كعكة “النهم”، وهي الحلوى التي مهدت الطرق للبقلاوة كما نعرفها الآن.

“البقلاوة الزغلولية” (الحدف):

أياً تكن أصول البقلاوة، فإنه يسجل لبيروت إبتكار صنف خاص منها، إقترن بشهر رمضان المبارك وبإسم صانعها، ألا وهي “حدف” رمضان التي كانت تعرف بالبقلاوة “الزغلولية”.

فمن أوائل الذين اتخذوا صناعة الحلوى مهنة وحرفة كما يؤكد المؤرخ عبد اللطيف فاخوري شخص يُدعى سعيد الزغلول، الذي إشتهر بصنع نوع من البقلاوة المحشوة بالجوز. وذاع صيتها وأقبل الناس عليها لا سيما في شهر رمضان المبارك ونُسبت إليه فعُرفت بـ”البقلاوة الزغلولية”، وكانت عبارة عن قطع صغيرة على شكل معيّن (Lozange).

وقد تعلم الكثير من “الحلونجية” في بيروت صناعة “الزغلولية” على يدي سعيد الزغلول وفي مقدمهم إبن عمه عبد القادر أبو عمر، الذي فتح محلاً في منطقة المرفأ في منتصف عشرينيات القرن الماضي.

وخلال شهر رمضان المبارك كان يرسل عدداً من “صواني” هذه الحلوى إلى جانب مدخل الجامع العمري الكبير في شارع “المعرض” عند صلاة العصر، فُيقبل عليها الصائمون لدى خروجهم من المسجد قبل موعد الإفطار بصورة كبيرة فيبيعها كلها. وهذا ما جعل “البقلاوة الزغلولية” حلوى موسمية مرتبطة بالشهر الكريم.

ومع مرور الوقت، سُميت “البقلاوة الزغلولية” بعدما صارت تصنعها كل محال الحلويات العربية خلال هذا الشهر بـ”حدف رمضان”. وأطلقت عليها هذه التسمية لأن طريقة تحضير عجينة البقلاوة تقتضي من “الحلونجي” حدفها من اليد اليسرى إلى اليمنى وبالعكس وبطريقة حرفية خاصة، حتى تُصبح العجينة جاهزة للمد في الصواني.

بعدما كانت مآدب رمضان تزخر بمختلف أصناف الحلويات الشرقية التي تعد خصيصاً للشهر الكريم، وفي مقدمها “الحدف”، فإنها وللأسف الشديد باتت ذكريات من الماضي القريب لا البعيد، بعدما باتت أسعارها خيالية، وكأن واقع حالنا، بأن حلوى البقلاوة التي كانت حكراً على ولائم السلاطين، أصبحت حصراً بمتناول سلاطين زماننا!

شارك المقال