أضواء رمضان (٥/٥): توحيش الشهر الفضيل

زياد سامي عيتاني

رمضان دمعي للفراق يسيل،

والقلب من ألم الوداع هزيل،

رمضان إنك سيدٌ ومهذبٌ،

وضياء وجهك يا عزيز جليل…

أبيات شعرية تعبّر عن الحزن والأسى الذي يشعر به الصائمون، مع الإقتراب من انقضاء شهر رمضان المبارك.

فعند دخول العشر الأواخر من رمضان، تبدأ مظاهر توديع هذا الشهر الفضيل بمشاعر من الحزن والألم لفراقه والاحساس بالوحشة لغيابه. وكلمة “التوحيش” من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان.

و”التوحيش” توارثه الأبناء عن الأجداد، فهناك مخطوطة في مكتبة “الاسكوريال” في إسبانيا تحمل عنوان: “وداع رمضان المعظم” لإبن الجوزي المتوفى سنة 1200م، ولذا يمكن القول بظهور تلك العادة على الأقل منذ القرن السادس للهجرة.

أشكال “التوحيش”:

“التوحيش” اختلفت عاداته من بلد الى آخر، ففي مكة كان يحتفل به بختم القرآن كاملاً في كل وتر من الليالي العشر الأخيرة في الحرم المكي الشريف. أما في مصر فكان يحتفل به بأداء صلاة آخر جمعة منه في مسجد عمرو بن العاص والتي يدعونها باسم ” الجمعة اليتيمة”. وفي بيروت قديماً كانت توقد المصابيح وتترك حتى نهاية الشهر، بينما في بلاد الشام والحجاز والمغرب العربي جرت العادة أن تصدح المآذن بأناشيد الوداع في العشر الأواخر من الشهر الكريم.

“لا أوحش منك يا شهر الصيام”:

إذاً، من أشكال “التوحيش” أنه نوع من الأناشيد الدينية التي ترتبط بوداع شهر رمضان، إذ إعتاد مؤذنو المساجد قديماً في الأيام الأواخر توديعه بكلمات فيها أسى ونغم حزين وشجي، تتأثر بها النفوس، وتدمع العيون.

يؤدي عملية “التوحيش” بعض المؤذنين ويساندهم في بعض الأحيان عدد من قرّاء القرآن الكريم، والمنشدين، ويشكلون جوقة تردد خلفهم.

وتتنوع التواشيح الرمضانية بين “التوحيش” و”التحنين”، ويبدأ الموشِّح أو الموشحون بذكر الله عز وجل ثم الصلاة والسلام على النبي محمد عليه السلام بكلمات تحدث وقعاً في القلب، ثم يبدأ النشيد.

من التواشيح التي ترددها المساجد:

“لا أوحش الله منك يا رمضانا، يا شهر الخيرات والاحسانا، شهر الصيام على الرحيل لقد نوى، يا طول ما تتذكروا رمضانا يا ترى دوما نعود ونلتقي، في مثل هذا الشهر يا إخوانا…”.

ويقابلها الموشحون بـ “التحنين”، وهو كلمات تحمل طابع الدعاء، كقولهم:

“يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا حنَّان يا منَّان

أجرنا من عذاب النار، يا ذا الجود والإحسان

ثبتنا على الإيمان، صلى الله ربنا على النور المبين،

أحمد المصطفى سيد العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين…”.

وقال الخوارزمي في معنى “لا أوحش الله منك”: أي لا أذهبك الله، فتوحش أحباءك من جانبك بالفراق.

قدم “التوحيش”:

في الحرم المكي الشريف كان يحتفل بختم القرآن الكريم في كل وتر في الليالي العشر الأواخر بحضور القاضي والفقهاء.

ويشير ابن جبير في رحلته “اجتهاد المجاورين للحرم الشريف” الى ليلة إحدى وعشرين بقوله: “… فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما”.

ثم يتطرق الى ليلة ثلاث وعشرين فيقول: “وكان المُختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً، وذلك أنه أعد له ثرياً مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسُمّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرز”.

“التوحيش” في بيروت:

في بيروت شاعت عادة “التوحيش” مع إقتراب شهر رمضان من نهايته، وأصبحت من مقومات العبادة حتى أن الدولة العثمانية سنّت التوديع وأمرت بإبقاء المصابيح والإكثار منها في سائر ليالي رمضان، وأمرت المؤذنين بأن يحتفلوا لهذه الأوقات الشريفة ويكثروا فيها من التسابيح والتهليل وينشدوا القصائد الموضوعة في المديح النبوي.

وروى الشيخ عبد القادر قباني في صحيفته “ثمرات الفنون: “أن السلف الصالح في بيروت كان يحيي الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك بالقيام والخشوع وتلاوة القرآن الشريف، وكان الإنسان إذا مرّ في أحياء البلدة (بيروت) لا يسمع إلا تلاوة القرآن، وكانت مجالس القوم عامرة بذلك”.

وكانت ليلة القدر في بيروت تكتسب ميزة خاصة، فبالإضافة إلى الاحتفالات التي كانت تعم مساجدها وجوامعها كانت تفتح أبواب الحجرة الموضوع فيها الأثر الشريف في الجامع العمري الكبير، حيث كان يحضر الوالي والأعيان للتشرف بزيارة الأثر المذكور، ثم يزوره الناس أفواجاً أفواجاً. وعن هذا الأثر الشريف يطلعنا المؤرخ فاخوري كاشفاً: “انه عبارة عن ثلاث شعرات من اللحية الشريفة النبوية أهداها السلطان العثماني الى مدينة بيروت. وقد وصلت اليها في البابور العثماني المسمى بالقارص في رمضان سنة 1278 هجرية الموافق في آذار 1862 ميلادية برفقة حسن رضا باشا أمير الحج الشريف. ولما شاع الخبر بقدوم الأثر الشريف هاجت القلوب بالدعاء وجرى موكب حافل حمل الأثر المشار اليه وحضور العلماء والأعيان وأمامهم الأنفار العسكرية مصطفّة والموسيقى العسكرية، أفتوا به الى الجامع العمري الكبير حيث خصّصت له الحجرة الكائنة في الجهة الغربية الجنوبية من الجامع المذكور وعهدت خدمة هذا الأثر الشريف الى آل فاخوري. وما يؤسف له أنه وخلال فترة الأحداث اعتدت يد آثمة على الأثر الشريف وسرقته من موضعه ولم يعد يعرف عنه شيء من تاريخه”.

ومنذ ذلك الوقت بقيت عادة “التوحيش” قائمة في مساجد بيروت التي كانت تضاء أنوارها ويرتادها المؤمنون بكثرة وتقام في رحابها الصلوات وحلقات الذكر والإنشاد والدعاء وختم القرآن الكريم، وكانت فرق الإنشاد النبوي تطوف الشوارع في أوقات السحور حتى تبلغ الجامع العمري الكبير قبل إقامة صلاة الفجر.

توحيش الحامولي من مئذنة جامع الحسين:

ومن حكايات الزمن المندثر أن الفنان عبده الحامولي كان حريصا على الافطار بالقرب من مسجد الحسين ثم يتسامر مع أصدقائه في أحد المقاهي البلدية‏، وعقب آذان العشاء يصعد الى منارة جامع مولانا الحسين وينشد من هذه التسابيح أو التواحيش، وكانت العادة في ذلك الزمان أن تؤدى من أعلى مآذن القاهرة‏،‏ فكانت الساحة الممتدة أمام الجامع والمشربيات والشرفات تحتشد بالناس، فتحلق الأرواح في سماء الجلال مستمتعين بفن الحامولي وصوته الفريد ينساب الى المسامع بكل الوقار من خشية الله وكل الرجاء في فضله ومغفرته فتطرب القلوب ويأخذ بالألباب الى عالم ليس من عالمنا‏!

توحيش “المسحراتية”:

وفي الماضي، لم يكن التوحيش يقتصر على المنشدين المحترفين في مساجد بيروت فحسب، بل كان يلجأ “المسحراتي” إلى تغيير موضوعات أدائه أثناء جولاته إلى “التوحيش”، حيث يملأ الأرجاء بتوحيشه الذي يواصله من الامساك حتى آذان الفجر.

وبصوت ملؤه الأسى والحزن، كان المسحرون يرددون عبارات التوحيش، التي تحمل حزن الناس على إنقضاء الشهر الكريم وإحساسهم بالوحشة لغيابه، وافتقادهم لأجوائه العامرة بالخشوع والمحبة والتواصل.

ومن أشهر هذه النصوص:

“شهر الصيام مفضل تفضيلا،

نويت من بعد المقام الرحيلا،

قد كنت شهراً طيباً ومباركاً،

ومبشراً بالعفو من مولانا،

بالله يا شهر الهنا ما تنسانا،

لا أوحش الرحمن منك…”.

إذاً، كما جرت العادة أن يحتفل المسلمون بإستقبال شهر رمضان المبارك بالحفاوة والتكريم وإقامة مظاهر الفرح والسرور للتعبير عن ترحيبهم بإطلالته بعد طول شوق وانتظار، فقد جرت العادة في المقابل، أن يودعوه بالحفاوة والتكريم نفسهما في العشر الأخيرة، إنما بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله.

شارك المقال