معمول العيد… إعداده في المنازل حفاظاً على عاداته الراسخة 

زياد سامي عيتاني

على الرغم من الزمن، وتغير العادات، لا تزال عادة صنع معمول العيد (لمن إستطاع إليه سبيلاً)، واحدة من أكثر العادات الموسمية رسوخاً لدى المجتمع البيروتي، بمناسبة عيد الفطر المبارك، الذي لا تكتمل فرحته من دون المعمول أو “كحك” العيد (كما يطلق عليه المصريون)، فهو يعد من مظاهر الفرح والاحتفال بالعيد، لما يمنحه من طعم مختلف ويضفي مزيداً من البهجة والمتعة، حتى بات مع الزمن سمة أساسية من سماته، التي لا يمكن التخلي عنها، لتزيد من الحلاوة بطعم المعمول ومذاقه، إكراماً للضيوف والمعايدين، وتعبيراً عن الفرحة العامرة التي تغمر الجميع صغاراً وكباراً.

وعادة تقديم الحلوى في العيد، قديمة جداً ويمكن التعرف على قِدَمِهَا من خلال ما كتبه الرحالة المؤرخ الشيخ عبد الجواد القاياتي في سياق وصفه للعيد في بيروت عام 1880 بقوله: “إن من عوائد أهلها أن يزوروا بعضهم بعضاً في بيوتهم فيقدمون للزائر شيئاً من الحلوى على صينية صغيرة في يد الخادم إما من الحلواء اليابسة الجافة وإما من الحلواء الرطبة المسماة مربى”….

إعداد المعمول في المنازل:

أما عيدنا هذا العام في ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، التي جعلت المواطن اللبناني يقف عاجزاً عن تلبية مستلزماته، التي كانت حتى السنين الماضية من متطلباته الأساسية، فحدت بالكثير من الأسر الى الاستغناء عن معمول العيد، لأن “العين بصيرة، واليد قصيرة”، في حين أن أسراً أخرى، عادت لتحيي واحدة من عادات زمان التي إنقرضت، بإعداده وتحضيره في البيوت، لأن ذلك أقل تكلفة من شرائه جاهزاً.

ففي الزمان الغابر، كانت النسوة بعد الانتهاء من “تعزيلة العيد”، ينصرفن الى صناعة المعمول المنزلي، “فلا طعم للعيد من دون معمول”، هذه العبارة التي طالما رددتها الأمهات والجدات على مر الزمان.

ويُعد معمول العيد من أهم المظاهر الاحتفالية بالمناسبة، بحيث كان يحضر قديماً في البيوت خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك على أنغام أغنية أم كلثوم “يا ليلة العيد آنستينا”… فكانت النساء يعجن عجينة المعمول التي تفوح منها رائحة ماء الزهر وماء الورد، و”يدعكنها” ثم يقطعنها وبعدها “يكوزنها” بشكل كرات صغيرة لوضعها في القوالب الخشبية وتجويفها نصف تجويفة لادخال الحشوة التي تكون إما من التمر أو الجوز أو الفستق الحلبي المبروش، فيقلبن القوالب الخشبية ويطرقنها فتسقط المعمولة آخذة شكل نقشة القالب، وكان يخصص لكل صنف نقشة خاصة للتمييز بينها، وبعد أن تصف في الصواني ترسل الى الفرن لخبزها، وحين يعيدها “صبي” الفران، ترش بالسكر الناعم وتوضع في صواني الفضة، لتصبح جاهزة للضيافة. وكانت النساء يتفاخرن في ما بينهن، من أتقنت أكثر من غيرها صناعة المعمول وأجوده، من دون أن يخلو المشهد من “التزريك” المحبب، والممازحات اللطيفة.

أصل كلمة معمول:

كلمة معمول تونسية الأصل، واشتهرت مدينة القيروان بصنعه تحت مسمى “المقروض” الذي اكتسبه التونسيون من البربر، ويسمى لدى التونسيين “أكلة المناسبات السعيدة”. وسمي بـ “المقروض” لأنه بعد تحضيره كان يقطع الزائد من عجينة السميد حول كل قطعة. وقد أتى على ذكره إبن أبي دينار بقوله: “إلتقيت بمن أكله في الحضرة (أي تونس العاصمة) فعجبت لمن في بيته المقروض كيف ينام الليل”.

و”المقروض” عرف تطورات كثيرة خلال العقود الماضية، ولكن أهم نقلة عرفها كانت مع تنامي الدولة العثمانية بحيث صار يعرف بـ “المعمول”، واكتسب بُعداً صناعياً واختص بأدوات وماعون نحاسي وصارت له قوالب منقوشة مستلهمة زخارف وأشكالاً هندسية مدهشة.

تاريخ معمول العيد:

يعتقد البعض أن أصل معمول أو كعك العيد يعود إلى عهد الدولة الفاطمية، بحيث إهتم الفاطميون بإدخال مظاهر البهجة المختلفة على المسلمين في مناسباتهم الدينية سواء رمضان أو الأعياد، إلا أن الكعك يعود في تاريخه إلى العصر الفرعوني، وأكد العديد من المصادر أن زوجات الملوك إعتدن على تقديمه للكهنة القائمين على حراسة الهرم خوفو في يوم تعامد الشمس على حجرته.

وبرع المصريون القدماء في مظاهر الاحتفال المختلفة، والتي جاء منها الكعك، الذي ظهر في عهد الملك رمسيس الثالث، فتم إكتشاف أول صورة لشكل الفرن الملكي في إحدى الغرف الجانبية من مقبرته، وكانت تظهر إلى جانبه صورة للكعك منقوشاً عليه رسم إله الشمس “آتون”، بحيث يقدم قرباناً للإله.

وتذهب بعض الكتابات التاريخية إلى أن المصريين القدامى عرفوا في أيام الفراعنة نحو 100 شكل من نقوش الكعك وأقراص الأعياد ومن بينها اللولبي والمخروطي والمستدير والمستطيل.

وانتشر الكعك في العصر الاخشيدي سنة 924 م، مروراً بالعصر الفاطمي، حتى العصر الأيوبي، أما المماليك فقد بالغوا في الاهتمام به، بحيث إعتبر من أوجه البر والصدقات على الفقراء.

يشار إلى أن متحف الفن الاسلامي يزخر ببعض النقوش التي كانت تنقش على الكعك بواسطة القوالب التي يتشكل منها، وكان أبرزها عبارات “بالشكر تدوم النعم”، و”كل هنيئاً”، و”كل واشكر”، وفي بعض المناسبات كانوا يشكلونه على هيئة عرائس تراثية.

صناعة الكعك شهدت فترة إزدهارها في ظل الحكم الفاطمي، حيث خصص الفاطميون إدارة حكومية عُرفت باسم “دار الفطرة” كانت تهتم بتجهيز الكعك وتوزيعه، وكان إنتاجها منه يرص في هيئة جبل عظيم أمام شباك القصر الفاطمي حيث يجلس الخليفة بعد صلاة العيد ليوزعه بنفسه. وكان يبلغ طول مائدته 1350 متراً وتحمل 60 صنفاً من كعك العيد.

وسبقت الدولة الأخشيدية الدولة الفاطمية في العناية بكعك العيد بحيث كان كان أبو بكر المادراني وزير الدولة يصنعه في أعياد الفطر ويحشوه بالدنانير الذهبية، وكان يطلق عليه حينها “افطن إليه” أي انتبه للمفاجأة، ولكن تم تحريف إسم الكعك إلى “انطونله”. ولما جاء المماليك إهتموا بالكعك وبتوزيعه على الفقراء، واعتبروه من الصدقات.

إنها روائح العيد، تهل علينا بذكرياتها وناسها، الذين ذهبوا من سنين طويلة، وما زالوا يعيشون فينا، نتذكرهم بالشجن والحنين الى الأيام الخوالي، مستعيدين طقوس إعداد معمول العيد في المنازل، مرغمين تحت وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة، لما يمنحه للعيد من طعم مختلف يضفي مزيداً من البهجة والمتعة، مع العودة الى عادة توزيعه على الأقارب والأسر غير القادرة حتى على تحضيره في المنازل، في مظاهرة إجتماعية، وكنوع من التواصل الحميم والتعاضد، الذي يميز المجتمع البيروتي.

شارك المقال