عيد الأضحى في طرابلس… عادات صامدة بوجه الأزمات! 

إسراء ديب
إسراء ديب

لا تشهد سوق طرابلس إقبالاً شعبياً شديداً أو لافتاً قبيل حلول عيد الأضحى المبارك، فالأسواق التي تغصّ بالمواطنين عادة لشدّة الاقبال عليها خلال فترة الأعياد، لم تُسجّل حركة ملحوظة خصوصاً في الساعات الأخيرة، بسبب غلاء الأسعار على الرّغم من تراجع سعر صرف الدولار في السوق السوداء.

بصورة عامّة، إنّ المقارنة بين الأجواء السائدة في عيديّ الفطر والأضحى، تبقى غير قابلة للطرح نظراً الى تعلّق الطرابلسيين بهذه المناسبات الدينية التي يُشدّدون على أهمّيتها مهما اشتدّت الأزمات والعراقيل المادية، لكن وفي رصد للأسواق لا سيما الشعبية منها، يُمكن القول إنّ الاختلاف هذه المرّة، والذي يكمن في الاقبال، لا يرتبط بالمعاني الدينية السامية، بل بمفهومين رئيسين:

الأوّل، تقليدي واجتماعي ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرة الطرابلسيين الى الاجراءات التي يُمكن تفاديها أو تطبيقها خلال فترة عيد الأضحى، إذْ يعتاد الطرابلسيّون عموماً عدم شراء الثياب، الحلوى المعروفة، شراء المعمول أو صناعته، لأسباب تعود إمّا الى توفيرهم بعض هذه المواد بعد عيد الفطر والابقاء على عدد منها، أو شراء بعضها لكن بكمّيات محدودة، ومن هنا يعمد الطرابلسيون إنْ لم يتمكّن بعضهم من تقديم المعمول، إلى شراء أو صناعة حلوى “الكعك بخميس” أو “القراص”، (والتي تُعدّ أوفر بكثير من المعمول أو أيّ نوع حلوى آخر، ويُذاع صيتها فعلياً خلال هذا العيد منذ أعوام في المدينة)، وربما قد يلجـأ البعض إلى التوفير وعدم الشراء، وهي استراتيجية لا تُعدّ جديدة في هذا العيد، لكنّها باتت تحمل رسالة قاسية هذه المرّة لأنّها طريقة يُجبر عليها الأهالي بسبب سوء الأوضاع والظروف التي تحرم الكثير من الأطفال تحديداً من حقوقهم.

أمّا المفهوم الثاني، فهو ماديّ بحت، ويكمن في تراجع دعم المغتربين لذوي القربى أو للغريب، ففي عيد الفطر مثلاً، تزداد التحويلات المالية نظراً الى ارتباطها بشهر رمضان المبارك والمعاني الدينية التي تطغى على تلك الفترة، بينما تتراجع هذه التحويلات التي لا ينكر أحد أنّها لا تزال مستمرّة لكنّها تُركّز أكثر على سوق الأضاحي والمواشي أكثر من تركيزها على مجرّد تحويل ماديّ. من هنا، يعمد عدد من المغتربين إلى إرسال أموالهم لغايات هذا العيد القائمة على النحر (الأضحية) وتوزيع اللحوم على المحتاجين والمقرّبين، الأمر الذي يفرض اختلافاً أو تعديلاً واضحاً في الأطر الشكلية لهذا العيد.

ويشتكي العديد من التجار في الأسواق من هذا التراجع، لكنّ الكثيرين منهم يؤكدون لـ “لبنان الكبير” أنّ بضاعتهم لا تُعدّ جديدة عموماً لا سيما في الأسواق الشعبية، كما أنّهم كانوا يتوقّعون هذا التراجع في هذا العيد الذي يدفع الناس إلى الابتعاد عن الأسعار المرتفعة. من هنا، تُشير إحدى الزبائن في سوق القمح إلى استغرابها وصدمتها من أسعار مرتفعة تفرض بالدولار ولا يُمكن تقبّلها بالليرة اللبنانية، وتقول: “بين سوق عزمي المعروف وهذه السوق الشعبية في التبانة، نرى تقارباً في الأسعار بصورة ملحوظة، إذْ جئت لأشتري ثياباً أرخص، لكن لم أجد سعراً أقلّ من 15 أو 20 دولاراً وأحياناً يتحدّثون عن 25 دولاراً وهي أسعار تفرض حتّى في البالة، فإلى أين يتجه الفقير، وإلى من يُحوجوننا عاماً بعد عام؟”.

وحدها المسيرات الكشفية أو الدينية كما التكبيرات القائمة في الشوارع أو الأسواق، تُشعر المؤمنين بلذة العيد وهي أجواء كانت تحدث “أضعافاً مضاعفة” منذ أعوام، لكنّها لا تزال قائمة ومن العادات التي لا يُمكن تجاوزها، لا سيما في الأحياء الشعبية التي يُسمع في أرجائها بعض التكبيرات التي تُحييها المساجد وباتت تُدخل الأطفال إلى رحابها لاطلاق هذه التكبيرات ولتعليمهم بعض الأحاديث الدينية القائمة على تشجعيهم على التكبير والتهليل في الطرق لحثّ غيرهم على الفعل عينه. من هنا لجأ بعض الأحزاب الدينية شمالاً، إلى نشر بعض المقاطع المصوّرة التي تُظهر مسيرات دينية سبقت الأعياد في السبعينيات، لمقارنتها بمسيرات اليوم المستمرة لكنها قطعاً ليست بالزخم أو الأسلوب نفسه”.

في الواقع، يرغب الكثير من الطرابلسيين في العودة إلى “الزمن الماضي أو الجميل”، وتُشير عائشة س. (وهي من التبانة – 82 عاماً)، الى أنّها تشعر بالحنين إلى أعوام خلت، وتقول لـ “لبنان الكبير”: “إنّ هذا الجيل من الطرابلسيين لم يعرف حقاً أجواء طرابلس التي لا تزال متمسكة بشعائرها الدينية خلافاً للكثير من المدن أو المحافظات المختلفة، لكن في أيامنا كانت تنظم مسيرات تهليل لا تُعدّ ولا تُحصى، خصوصاً عند رؤية الخراف على الطرق وأمام الملاحم، وكنّا نكبّر عند العشر الأوائل ونذكر الله كثيراً جهراً لا بالخفاء. كما درجت مهنة الخياطة في ذلك الوقت، حيث كنت أقوم بخياطة فساتين وأطقم لأولادي كلّ عيد ولكلّ يوم فيه، وكنت أرسلهم إلى المراجيح والقطار أيّ الألعاب التي كانت تُخصّص لكلّ منطقة ولم يكن وضعنا الماديّ متدهوراً كما هو عليه اليوم، لكن كانت البركة موجودة في حياتنا على الرّغم من الضيقة المعيشية أحياناً”.

تُضيف: “بعد صلاة الفجر، كنّا نزور المقابر المعروفة حيث نقوم بما يُسمّى صبحيات العيد كما نطلق عليها، إذْ نجتمع بثياب العيد وبكامل أناقتنا، وكنّا نصل الرحم فنزور الجدّ والجدة، العم والعمّة، الخال والخالة فلا نمكث عندهم كثيراً، لكنّها زيارة حتمية كنا نفرح بها ونتوقّع زيارة مقابلة لها مباشرة، حتّى أنّنا كنا نذهب الى السينما لمشاهدة الأفلام الجديدة خلال العيد وكانت الصالات تشهد زحمة كبيرة وغير مسبوقة على خلاف ما يحدث اليوم، لكن عموماً حتّى في هذه الأيّام القاتمة التي نشهدها، تبقى زيارة القبور، شراء الكعك من البسطات أمام المقابر، والمسيرات من شعائرنا الاجتماعية الصامدة، وليتنا نعود إلى ما كنّا عليه سابقاً، ليشعر الأطفال بلذة العيد الحقيقية”.

شارك المقال