البيارتة كانوا يلتحقون بالمحمل الشامي للتوجه براً الى الحج

زياد سامي عيتاني

كان حجاج بيروت قديماً، وقبل أن تسير الرحلات الجوية، يتوجهون إلى دمشق، لينضموا إلى قافلة الحج الشامي (المحمل) المتجهة إلى الأراضي المقدسة. وكانت رحلتهم إلى الحجاز محفوفة بالمخاطر والمشقة، لما كان يلاقيه الحجاج من متاعب، وما يتعرضون له من أمراض وأوبئة، حتى قيل فيهم بأن: “الرايح مفقود والراجع مولود”.

يذكر أن مدينة دمشق إكتسبت شهرة تاريخية كبرى في ما يتعلق بالحج، لأنها كانت ملتقى قوافل الحجاج العرب والفرس والمغول والأتراك، ونقطة إلتقاء هؤلاء الحجاج الذين يفدون إليها بطريق البر منذ شهر رجب من كل عام من بلاد ما وراء النهر وإيران والأفغان والسند والعراق والأناضول وسواها، فيجتمعون فيها إلى منتصف شهر شوال.

وفي ذلك الوقت، كانت الطريق الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة من أقصر الطرق وأكثرها سلوكاً، ما دفع الحكام طيلة العصور الاسلامية وحتى العهد العثماني، الى إقامة الحصون والقلاع بدءاً من المزيريب وبصرى إلى القطرانة.

لا بد من لفت النظر في سياق هذا العرض، الى أنه في سنة 1881م، قدم إلى بيروت أمين الصّرة، وهي المال الذي كان السلطان يرسله سنوياً إلى الحرمين الشريفين، فأطلقت له المدافع، واستقبل بالاحتفالات والزينات وضرب خيامه في ساحة البرج قرب باب السرايا، ثم توجه بعد ذلك الى دمشق.

وظائف المحمل:

كان محمل الحج الشامي يتألف من عدة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم. ومن وظائف تلك الفئات: “السقاة” كانوا يحملون القِرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. و”البّراكون”، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. و”العكّامة” وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضاً، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم.

ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهيؤون لتأمين راحة الحجاج، فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال، وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة، والبياطرة منهم أيضاً، والجنود يخدمون أنفسهم. أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه.

مراسم المحمل:

تبدأ مراسم المحمل في اليوم الأول لعيد الفطر، وتسمى “مراسم الزيت والشمع والمحمل”، بحيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الانتهاء تجرى حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين.

في “يوم الزيت” وهو الثاني من شوال كل عام، يحتفل بنقل الزيت من “كفر سوسة”، ضمن ظروف على ظهور الابل حتى “الكيلار” في البحصة، وهو المستودع الخاص بأدوات محمل الحج.

أما في اليوم الثالث من شوال “يوم الشمع” فينقل الشمع في إحتفال رسمي أيضاً، من الدار التي سكب فيها في “كفر سوسة” ووزنه ثلاثة قناطير، وماء الورد من محصول قرية “المزة” ووزنه نحو قنطار، والملبس ووزنه عشرة أرطال، ويُحمل الشمع على أعناق الرجال ملفوفاً بالشال “الكشمير” لإهدائه إلى الحرمين.

وفي اليوم الرابع من هذه المراسم، وهو “يوم المحمل”، يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى حي “الميدان”، ثم “باب مصر”، ومنه إلى قرية “القدم” التي فيها قبة جامع “العسالي”، وتحت هذه القبة، يوضع المحمل نحو عشرة أيام، ريثما تنتهي أسباب السفر إلى الحجاز.

رحلة المحمل ومحطاته:

الوصول إلى مكة المكرمة، تسبقه محطات عدة يتوقف عندها الحجاج. وأهمية هذه المحطات البرية، أنها تفسح المجال لتلاقي الحجاج من شعوب وأجناس مختلفة في تجمع روحاني تجمع بينهم أواصر الدين الحنيف، إذ يتم التعارف وتدور المناقشات.

وكانت “قبة يلبغا” أولى مراحل الحج الشامي، وكان الحجاج يبيتون فيها يوماً أو يومين فيتبعهم من تخلف، ويتوجه الركب منها إلى خان ذي النون، فالشيخ مسكين، فطفس، فالمزيرب، حيث يقيم الركب بضعة أيام، وهناك يدركهم من تأخر كما حجاج تلك المناطق، ويشترون ما يلزمهم من الأقوات والحوائج.

وبعد المزيريب يتوجه الركب إلى درعا أو أذرعات كما كانت تسمى، وفيها يمتار الحجاج ثم يغادرونها إلى أرض المفرق، فالزرقاء، فعمان.

ومن المحطات المهمة بعد ذلك اللجون وفيها يبيت الحجاج ليلتين ويمترون أيضاً مما يصلها من مؤن من القدس. بعدها يصل الركب إلى حالة عمار، فتبوك، فمدائن صالح، وصالح هذا من بني العباس ومنها إلى العلا.

إنطلاق المحمل:

كانت القافلة تنطلق من دمشق بإمرة الوالي أو أمير الحج، فتقطع 27 مرحلة بين دمشق والمدينة المنورة، وعشر مراحل بين المدينة المنورة ومكة المكرمة. ولم تكن المراحل متساوية كلها، فالمحطات تحددها مصادر المياه والقلاع، وقد تصل المسافة بين نقطتين إلى ستين كلم.

وكانت القافلة تسير شتاء من الثالثة صباحاً حتى المساء، مع توقف لأداء الصلاة. أما في الصيف، فتسير القافلة ليلاً وتقف مع الفجر.

كانت المزيريب من المحطات الرئيسة، وهي من قرى حوران وتبعد حوالي 100 كلم عن دمشق.

الوصول إلى المدينة المنورة:

من العلا إلى المدينة المنورة هناك يستقبل الركب الشامي الطواشية، وناظر الحرم، وأكابر البلد، ثم أمير المدينة المنورة. وكانت المدة التي تستغرقها القافلة بين دمشق والمدينة المنورة حوالي 35 يوماً وعشرة أيام أخرى إلى مكة المكرمة.

ولدى وصولها إلى مكة، يرسل أمير الركب إلى الشام، الكتب التي تتضمن خلاصة أخبار القافلة ويوم الوقفة وأسعار البضائع ومدى توافر المياه والمشكلات وأحوال أمراء الحجاز. فإذا ما حل يوم 25 ولم تصل إنتشر القلق في المدينة على الحجاج.

يذكر أخيراً، أن البيروتيين كانوا يكلفون اقاربهم أو معارفهم من الحجاج أن يحجوا عن موتاهم، ممن لم يتيسر له أداء الفريضة في حياته. وكان على الحاج الذي أدى الفريضة، أن يجلب شهادة تثبت قيامه بما كلف به، وهي عبارة عن ورقة مزيّنة بصورة الكعبة وغيرها من أماكن الحج مصادق عليها من شهود.

شارك المقال