بيروت قديماً كانت تستقبل حجاجها بالمظاهر الاحتفالية

زياد سامي عيتاني

رحلة عودة قوافل الحج قديماً إلى ديارها، بعد تأدية المناسك، لم تكن أقل مشقّة وخطراً من رحلة الذهاب إلى أرض الحجاز، وكانت مسرحاً للمشاعر المتناقضة، فإلى جانب الأهالي الذين يحتفون بالزغاريد بعودة ذويهم سالمين من رحلتهم الشاقة متوّجين بلقب “الحاج”، كانت هناك مناظر للحزن تتقطّع لها القلوب، ولا سيما عندما “تولول” النساء أو يجهشن بالبكاء، عندما يعلمن بوفاة من كنَّ يترقبن حضوره، أو عندما يتسلمن متعلقات المتوفّى.

لذلك، جرت العادة عندما تعود قوافل الحج إلى ديارها أن تقام لها طقوس خاصة لاستقبالها، بحيث تطلق المدفعية تحية لعودة المحامل، وتغص الشوارع بالناس الذين يُبدون حرصاً شديداً على الاقتراب من المحمل ولمسه ثلاث مرات ومسح وجوههم طلباً للبركة. فكانت القوافل تستقبل بحفاوة كبيرة في ديارها، حيث تُعدّ العدّة لاستقبال الحجّاج، إحتفالاً بعودتهم سالمين غانمين، وقد غفر الله تعالى ذنوبهم.

وإستقبال الحجّاج العائدين إلى بلادهم ومدنهم، بعد أن يكونوا قد أدوا فريضة الحج، يكاد يتشابه في معظم بلاد العالم الاسلامي، والقاسم الأكبر الذي يجمع بينهم هو الاحتفاء الكبير بهم، والتباري بالتعبير عن هذا الاحتفاء بمختلف الطرق التي تشمل الولائم، ولافتات الترحيب، والأهازيج المتداولة خصيصاً لهذه المناسبة.

وكانت مظاهر الاحتفاء بعودة الحجيج تستمر أياماً، وتخصّص لها نفقات كبيرة، ومظاهر متنوّعة وتنظّم لها فعاليات كثيرة، إختصرها الوقت الحالي في بعض مجتزأ من الماضي، يحمل القليل من ملامحه، والقليل من مشاعره وطقوسه.

مدينة بيروت كغيرها من المدن العربية والاسلامية، كانت تولي الاحتفالات بعودة حجّاج بيت الله الحرام إهتماماً كبيراً، وتُعدّ لهم إستقبالات حاشدة، لأنّ المسافر الى الحجِّ قد لا يعود من سفره، لبُعد المسافة وطول مدَّة السَّفر وبعض الأخطار التي يواجِهُها فيه.

وكان أهل الحجاج البيروتيين يترصدون عودة مواكب الحجاج، فيسافرون إلى دمشق لاستقبالهم وإصطحابهم إلى بيروت، حيث تقام الزينة وتنحر الخراف وتنشد القصائد والمدائح وتقرأ الموالد وتقدم له الخلعة البيضاء.

إذاً، كانت تُعدّ العدّة لاستقبالهم عند عودتهم من خلال إحتفالات ترحيبية تمتد لأيام عدة، يتخلّلها الكثير من الفعاليات التي صارت مع مرور الزمن من العادات والتقاليد الشعبية ترحيباً بالحجّاج.

وعلى الرغم من أن تلك العادات تغيّرت عبر الأزمان، لكنّ بعضها لا يزال معتمداً إلى حدٍّ ما، ومنها تزيين بيوت الحجّاج بسعف النخيل وأحياناً بأوراق أشجار السرو، إضافة إلى عبارات الترحيب واللافتات التي تحمل آيات قرآنية.

وجرت العادة على أن يقوم أهل الحجّاج العائدين، قبل وصولهم بأيام بتزيين واجهات المنازل بسعف النخيل، وبالرسوم والأصباغ الملونة والتي تحمل بصورة أساسية رسوماً لجمال المحمل، إضافة إلى تعليق لافتات قماشية تحمل عبارات: “حجّ مبرور وسعيّ مشكور وذنب مغفور بمشيئة الله”، “هنيئاً لكلّ من أنعم الله عليه بحج بيت الله الحرام”،”هنيئاً لمن لبى النداء”، “هنيئاً لمن وقف بعرفات”، “تقبل الله منكم”…

وثمة عادة جميلة جداً كانت سائدة قديماً في بيروت، وهي أن لا تقتصر زينة الحجّاج العائدين فردياً على مداخل منازلهم، بل كان أهالي الأحياء يتبرّعون وتتضافر جهودهم لإقامة زينات جماعية في مختلف أرجاء محلتهم، كتعبير يجسّد أبهى صورة عن الألفة والمحبة التي كانت تجمعهم من جهة، ومن جهة أخرى تعبيراً عن فرحتهم بوصول أهليهم وجيرانهم من أبناء المنطقة وأهلها سالمين غانمين من الديار المقدسة.

وعند وصول الحجّاج القادمين من الأراضي الشريفة المقدّسة إلى مناطقهم، كانوا يُستقبلون إستقبالاً حارّاً وسط العراضات والأهازيج والأناشيد وضرب الطبول والصُّنوج، وإطلاق الزغاريد ونحر الخراف، ليمرّوا من فوقها ويطبعوا أصابعهم من دمائها على جدران المنازل، ويقوموا بتوزيع جزءٍ منها على الفقراء.

ومن ثمّ يبدأ الحجّاج بإستقبال المُهَنِّئين من الأقارب والجيران، وتقديم الهدايا لهم، ومنها: التُّمور وماء زمزم والمصاحف والسُّبْحات والبخور والقماش المختَلِفُ، فيما يسهب الحجّاج في سرد وقائع رحلتهم وما تخللها من مشقة ومتاعب وصعوبات، والتي تزال كلّ آثارها وتداعياتها، بمجرد الوصول إلى المشاعر المقدسة، وكأن سحراً روحانياً قد أزالها عنهم،، فتبدأ رحلتهم الايمانية بالتمتع بالمناسك بكلّ ورعٍ وتقوى ونفحاتٍ نورانية، تنقلهم إلى عالم آخر.

وكانت تقام قديماً أيضاً، ومن ضمن الاحتفالات بعودة الحجّاج، بعد بضعة أيام من وصولهم، بعدما يكونون قد نالوا قسطاً من الراحة، الولائم على شرفهم، بحيث كان الجيران والأقارب يتبرعون لإقامتها، لأن بيوت الحجّاج تكون منهمكة بإستقبال المهنئين.

وكان يُدعى الى تلك الولائم وجهاء الحي وأصحاب الرتب وإمام المسجد والمخاتير والأهالي، مع الحرص أيضاً على دعوة “العائلات المستورة” للمشاركة في فرحة عودة الحجّاج.

وكانت تستهل الوليمة بتلاوة مباركة من القرآن الكريم، لأحد القرّاء، ثمّ تكون كلمة من وحي المناسبة لإمام المسجد، بعدها يُدعى الجميع إلى المأدبة لتناول ما لذّ وطاب من المأكولات الدسمة التي تُعدّ خصيصاً للمناسبة. وتختتم الولائم بتلاوة السيرة النبوية العطرة والأناشيد والابتهالات الدينيّة من فرقة المدائح التي تكون قد دُعيت لإحياء هذه الليلة.

من العادات القديمة في بيروت، رفع الراية في مواكب إستقبال الحجاج، إذ بقيت هذه العادة قائمة في بيروت إلى أوائل القرن العشرين وهو ما عرف بـ”الصحايف”، وهي عبارة عن صفحتين من النحاس (خليليات) يصاحبهما طبّال وزمّار، كانا يحضران مع حامل الراية إلى بيت الحاج، ويصحفان ويطلبان الإذن مع إعلان الخضوع للنبي وللعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من الشخصيات والوجهاء والأعيان.

ومن الصحايف قولهم:

يا أهل الحمية وعزايم الله القوية،

يا سامعين الصوت لا يقطع لكم ذرية،

بجاه طه خير البرية،

وإن كان هالراية البيضا المجلية

راية فلان وجماعتو وأهل حارتو بيّض الله،

فيرد الحاضرون: وجّو (أي وجهه).

ومما حفظته الذاكرة أن الشاعر الشعبي عمر الزعني أنشد بمناسبة عودة السيدة زينب الفاخوري من الحجاز فقال:

أهلا وسهلا بالحاجة،

والحجة بسبعين حجة، حجيت ونلت مرادك، وطلعتلك أكبر رهجة،

وعقبال العودة يا حاجة…

صحيح أن أداء مناسك الحج في عصرنا الحديث، بعد كلّ التسهيلات والخدمات المتطوّرة العصرية التي تتزايد كلّ عام، لتوفير الأمن والأمان والراحة والطمأنينة للحجيج، لم تعد محفوفة بالمخاطر والمتاعب، ولكنّ العادات الاحتفالية التقليدية بقدومهم لا تزال قائمة، وإن اتبعت ببعض المظاهر الجديدة، لكنها في مطلق الأحوال تضفي أجواءً زاهية ومحبّبة مع عودة حجّاج بيت الله الحرام إلى مدينتهم بيروت.

شارك المقال