هروب الفتيات القاصرات… من سلطة الأهل أو الواقع المزري؟

تالا الحريري

في بلد يفتقر الى كل مقومات الحياة لم يعد مستغرباً فقدان الأمن والأمان فيه كذلك. لا قدرة على التجول في الطرق ليلاً أو حتى نهاراً، لأنّ احتمال السرقة وارد، وإذا كانت في ما مضى تحدث في منتصف الليل حين تكون الشوارع خالية والناس نائمة، فاليوم باتت تحدث في وضح النهار وسط الناس.

تخوف من الخطف، من القتل أو الاعتداء… هذا هو حال لبنان الآن، فتارة نسمع عن وفاة طفلة بسبب تعرضها للاغتصاب المتكرر، وتارة أخرى عن أطفال يتعرضون للتعنيف، زوج يقتل زوجته دهساً بالسيارة أو بالرصاص وبدلاً من أن يختبئ الجاني يفاخر بجريمته على مواقع التواصل الاجتماعي “على عينك يا تاجر”.

الوضع العام لم يعد آمناً، الأطفال والنساء هم الضحية الأكبر واذا لم يتعرضوا لاعتداء ملموس فيكفي أنّهم يعانون على الأقل من مشكلات عائلية وشخصية وزوجية تدفعهم إلى الانتحار أو الهرب.

ضجّت الأخبار بالفتيات الأربع القاصرات المفقودات وذلك بعد أنّ نشرت قوى الأمن صورهن وأعمارهن على حسابها الرسمي، واعتبر الكثيرون أنّ هذه الظاهرة قد تكون ناتجة عن وجود عصابات منظمة تعمل على خطف الفتيات، لكن تبيّن لاحقاً حسب توضيح قوى الأمن الداخلي – شعبة العلاقات العامة أنّ “لا وجود لأي سبب أمني أو جرمي وراء هذه الحالات، انما تبين أنّها نتيجة لأسباب شخصية أوعائلية أو صحية”.

توضيح أمني للظاهرة

وفي هذا الاطار، أفاد مصدر أمني لموقع “لبنان الكبير” بأنه عثر على واحدة من الفتيات الأربع المفقودات، مشيراً إلى أنّ “ظاهرة فقدان الأشخاص وخصوصاً الفتيات ليست جديدة، ومن الممكن أن تقع بعض القضايا والأحداث في الوقت عينه، ما يؤدي إلى قلق الناس وتوقعهم سيناريوهات غير موجودة كوجود عصابات تقوم بعمليات الخطف، لكن في الواقع تختلف كل حالة عن الأخرى، فمنهن من تهرب بسبب مشكلات نفسية أو عائلية أو من علاقة زوجية”.

وأكّد المصدر أنّ “قوى الأمن تجد المفقودين وتقوم بارجاعهم إلى بيوتهم، هناك حالات يتم ايجادها بسرعة وأخرى يتم فيها تحديد الموقع لكن الشخص يكون رافضاً العودة. في حال كان الشخص فوق السن القانونية له حق الاختيار أمّا اذا كان تحت السن القانونية يحال ملفه على النيابة العامة، في حال كان هناك اعتداء أو تعنيف، وذلك بحضور مندوب الأحداث. وعلى أساس التحقيقات يتم توقيف الجاني وإحالة المجني عليه على الايواء أو التأهيل”.

تفسيرات سوسيولوجية لهروب الفتيات

وأوضحت الدكتورة في علم الاجتماع ثناء الحلوة لـ”لبنان الكبير” أنّ “الهروب من المنزل يشكل محاولة لتحقيق الأحلام لدى الفتيات الهاربات، بصرف النظر عن ماهية هذه الاحلام؛ وكذلك الدخول في تجارب مختلفة بصورة مستقلة عن الأهل، والأهم هرباً من واقع اجتماعي مر لا يتطابق مع ما تتمناه تلك المراهقات من الحياة”، مشيرة الى أن “هؤلاء الفتيات غالباً ما ينحدرن من بيئات اجتماعية فقيرة، تفتقر إلى المال والعاطفة داخل المنزل، وتسود فيها أنواع من العنف اللفظي أو الجسدي. معظم الفتيات اللواتي يهربن من المنزل يعانين من ضعف الاهتمام والرعاية العاطفية من جانب الأهل، خصوصاً اذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذه المرحلة تحتاج فيها الفتيات المراهقات إلى الكثير من الاهتمام والحوار والتواصل الايجابي مع الوالدين.”

وأكدت أن “الفقر والحرمان المادي وضعف اهتمام الأهل تعتبر من العوامل الأساسية التي تجعل الفتيات يشعرن بعدم الاندماج الاجتماعي في بيئتهن العائلية، وتدفع بهن إلى الهرب. عوامل أخرى مساعدة أيضاً، منها الملل والضجر داخل المنزل، خصوصاً اذا كانت صارمة في قيودها، إضافة إلى ما تراه الفتيات خارج منازلهن سواء في أماكن أخرى أو عبر التلفزيون ووسائل التواصل”.

أمّا بالنسبة الى العوامل الخارجية، فقالت الحلوة: “غالباً ما تكون هناك عوامل خارجية تشجع على عملية الهروب، منها مثلاً هروب احدى الفتيات الرفيقات من بيت أهلها، أو التوافق والاتفاق بين مجموعة من الفتيات على الهروب الجماعي، خصوصاً وأنهن ينتمين إلى الوضعية الاجتماعية والبيئة الثقافية نفسها. وعندما تعيش القاصرات أيضاً علاقات جديدة خارج البيت سواء مع الاناث أو حتى مع الذكور، تبدأ عملية المقارنة بين الداخل والخارج، ينتج عنها شعور بعدم الرضا والرغبة في الهروب من سجن العائلة والابتعاد عن القيود”. ولفتت إلى أنّ “التنشئة الاجتماعية داخل البيت هي العامل الأول الذي يحمي الفتيات أو يدفع بهن إلى الهروب، الذي لا يمكننا ربطه الا بفشل التربية الأسرية؛ إضافة إلى ما ذكر سابقاً من العوامل الأخرى. فالبيوت العائلية المترابطة عاطفياً تستطيع أن تشكل درعاً يحمي الفتيات من الهروب وما قد ينتج عنه من انحرافات واستغلال للفتيات قد يؤدي بهن إلى الموت النفسي والاجتماعي أو الحقيقي”.

أنواع مختلفة من الهروب

أما الباحثة في الأنثروبولوجيا والاعلام الدكتورة ليلى شمس الدين فقالت لـ”لبنان الكبير”: “البعض قد لا يدرك أنّ هناك ما يصل إلى 2.8 مليون طفل ومراهق يهربون من منازلهم كل عام. وتتراوح أعمار العديد من الهاربين بين 10 و14 عاماً، وهي أعمار لم يتعلموا فيها كيفية الاعتناء بأنفسهم ويفتقرون إلى القدرة على العثور على سكن واحتياجات أساسية أخرى. قبل أن نتمكّن من التعمّق في سبب هروب الشباب، من المهم التفكير في الأنواع المختلفة من الهروب التي ينظر إليها مستشارو الأسرة. إذ يحدّد معظم المختصّين في صحة الأطفال نوعين مختلفين من السلوك الجامح: العرضي والمزمن”.

أضافت: “أولاً، العرضي: هذا النوع من الهروب لا يتبع نمطاً معيناً، بل يتم تشغيله من خلال حدث أو حلقة معينة تتسبب في مغادرة المراهق منزله. إذا تعرض طفل أو مراهق لسوء المعاملة، فيمكنه المغادرة بعد حدث سيء خصوصاً. قد يشعرون أنهم مضطرون الى المغادرة بعد أن يخرجوا كشاذّين أو متحولين جنسياً أو لتجنّب المشكلات في المحيط الموجودين فيه. ثانياً، المزمن: الشباب الذين يشاركون في الهروب المزمن يفعلون ذلك كشكل من أشكال التلاعب، أي أنّهم يهربون إذا لم يحصلوا على ما يريدون، أو كوسيلة لجذب الانتباه إلى أنفسهم من أحد الوالدين. قد يستخدمون عبارة: إذا لم تفعل ذلك، فسوف أهرب، من أجل تهديد الوالدين. وغالباً ما يكون لدى هؤلاء المراهقين الذين يهربون بشكل مزمن مكان يلجؤون إليه، مثل منزل قريب آخر أو منزل صديق أو منزل شخص يثقون به. في هذا الإطار، بيّنت الدراسات أنّ هناك العديد من الأسباب التي قد تجعل الفتيات المراهقات يخترن الهروب من منازل والديهن”.

وتابعت: “يمكن أن تختلف هذه الأسباب اعتماداً على الفرد وظروفه الخاصّة، ولأهمية هذا الموضوع وشيوعه، أجريت العديد من الدراسات البحثية الاجتماعية لفهم أسباب هروب الفتيات المراهقات من منازل والديهن، وهدفت إلى استكشاف العوامل والخبرات الأساسية التي تسهم في هذا السلوك. وتبيّن أنّ هناك نقاط التقاء مشتركة حيال هذا الفعل، ومنها:

1- الخلل الوظيفي الأسري: أي ديناميات الأسرة المختلّة، بما في ذلك عوامل مثل الصراع الأبوي، والاساءة (الجسدية أو العاطفية أوالجنسية)، والإهمال، وتعاطي الوالدين المخدرات، وقضايا الصحة النفسية لهما أو لأحدهما. تولّد هذه الظروف بيئة منزلية غير آمنة أو غير مستقرة يمكن أن تدفع الفتيات المراهقات إلى الهروب من منازل ذويهن.

2- الصراع مع الوالدين: غالباً ما تواجه المراهقات صراعات وخلافات مع والديهن، والتي يمكن أن تتصاعد إلى درجة يشعرن فيها أن الهروب هو خيارهن الوحيد.

3- الرغبة في الاستقلالية: تشير بعض الدراسات إلى أن الهروب يمكن اعتباره محاولة للهروب من القيود المتصوّرة وممارسة السيطرة على حياة المرء. قد تعتقد المراهقات أن مغادرة المنزل سيسمح لهن باتخاذ قراراتهن الخاصّة، فيعمدن بالتالي إلى الهروب من الحماية المفرطة المتصوّرة، أو الأبوة والأمومة الصارمة، والتي قد تكون وهمية نتيجة عوامل متعدّدة.

4- تأثير الأقران: تلعب العلاقات بين الأقران دوراً مهماً في حياة المراهقين، وتشير بعض الدراسات إلى أن التأثير السلبي للأقران قد يسهم في اللجوء إلى الهروب للتحرّر من بعض السلوكيات نتيجة تأثيرهم.

5- تأثير وسائل الاعلام: إنّ تصوير وسائل الاعلام للهروب كوسيلة لتجاوز المواقف الصعبة، قد يؤثّر على تصوّرات المراهقين ويشجعهم على التفكير في الهروب كحل قابل للتطبيق تجاه مشكلاتهم.

6- العوامل الفردية: تسهم عوامل فردية عدّة في هروب المراهقين. ويمكن أن يشمل ذلك مشكلات الصحة النفسية (مثل الاكتئاب والقلق)، ومشاعر الاغتراب أو الانفصال في البيئات التي يعيشون فيها، أو تاريخ (سجّل) من الصدمات أو الإيذاء، أو تدني احترام الذات، أو الشعور بعدم الدعم من والديهم أو الشبكة الاجتماعية الأوسع.

7- سوء المعاملة أو الاهمال: قد تهرب الفتيات المراهقات من المنزل إذا كن يتعرضن لاعتداء جسدي أو عاطفي أو جنسي، أو إذا شعرن بالإهمال أو عدم الدعم من والديهن.

8- قضايا تعاطي المخدرات: قد تهرب المراهقات اللواتي تتعاطين المخدرات للتخلص من ضغط الأسرة أو المواجهات أو عواقب سلوكهن.

9- العلاقات الرومانسية: قد تهرب المراهقات بسبب تورّطهن في علاقات رومانسية، أو انغماسهن فيها، أو بسبب رفض الأهل لها”.

ولفتت شمس الدين إلى أنّ “غالبية هذه الفئات تحتاج إلى إيجاد طريقة ما لإعادة بناء حياتهن وإيجاد مكان آمن للعيش فيه. وقد شاركNational Runaway Safeline بعض الإحصاءات حول سبب هروب الأطفال، وتوصّلوا إلى النتائج التالية: يعاني 47٪ من الأطفال من صراعات مع الوالدين أو الأوصياء في المنزل، 34٪ من الهاربين تعرضوا للاعتداء الجنسي في المنزل (80٪ من هؤلاء الفتيات). أفاد 43٪ من المراهقين عن تعرضهم للإيذاء الجسدي كأحد الأسباب الرئيسة لمغادرتهم المنزل”.

واعتبرت أن “من المهم في هذا الإطار، ملاحظة أنه على الرغم من ظهور هذه الموضوعات في دراسات البحث الاجتماعي، إلا أن الأسباب الكامنة وراء هروب الفتيات المراهقات من المنزل معقّدة ويمكن أن تختلف اختلافاً كبيراً من فرد إلى آخر. بالاضافة إلى ذلك، من الأهمية بمكان أن نفهم أن هذه الدراسات غالباً ما تركز على المنظور الفردي وقد لا تلتقط السياق العائلي بأكمله أو الديناميات السائدة”.

البحث عن ملاذ آخر

وأكدت الأستاذة الجامعية والمعالجة النفسية حنان مطر، لـ”لبنان الكبير” أنّ “الأسرة السوية تنتج أطفالاً ومراهقين أسوياء والأسرة غير السوية تنتج عكس ذلك، لذلك أسلوب التربية الذي يعتمده الأهل مع أطفالهم سواء من ناحية التدخل الديني، النفسي أو الاجتماعي أو العادات والتقاليد أو الوضع الاقتصادي، كل هذه المعايير هي مؤشر لبناء شخصية للفرد داخل هذه العائلة. مجتمعنا مجتمع ذكوري، الأهل يمنعون الفتيات من القيام بما هو مسموح للفتيان، لذلك عندما تفكر هذه الفتاة في هذا العمر في الهروب فهذا يعني أنّها لا تجد الحماية والأمان داخل هذا المنزل”.

وشددت على أن “الأسرة هي مصدر الأمان والعاطفة والراحة والاهتمام، عندما يشعر المراهق بنقص في إحدى الاتجاهات فإنّه سيبحث عن مخرج أو مكان آخر يكون بمثابة مأوى له. في مرحلة المراهقة تكون لديه شخصية المتمرد، وإثبات الوجود وغياب الحوار مع الأهل ومحاولة فرض كلامه. ففي تلك المرحلة تبحث الفتاة عن مكان يؤمن لها الاهتمام والعاطفة والتقدير في ضوء هذه المعطيات، وكل هذه الأمور من مسؤولية غياب الوعي عند الأهل الذين لا يفكرون بها كونها حاجة أساسية”.

وقالت مطر: “الفتيات يتجهن الى الخروج من تحت سيطرة الأهل وأحياناً يكون هناك تقليد لهذه الأمور، فتقوم فتاة باقناع أخرى بالقيام بعمل ما، لأن الأهل غائبون عن الرفاق وكيف يفكرون. الحالة النفسية تدفعهن الى البحث عن ملاذ آخر بعيد عن أهلهن، وبعد ذلك يتعرضن للاغتصاب، للعنف، للتحرش ولحالات ادمان، والسبب الأول والأساس غياب دور الأهل العاطفي تجاه أبنائهم”.

https://twitter.com/lebisf/status/1676209440649801728

شارك المقال