السلطة تواجه اللبنانيين بـ”النفسية”… والشعب يرد بـ”التعايش”‎

ساريا الجراح

“بعد فتّْة”… هكذا قضى لبنانيون ليلة الثاني عشر من تموز. جلسات للعب الورق على وقع القنابل والرصاص وعتمة شاملة تسندها شمعة الألف ليرة ورسائل سخرية و”تنكيت” على هواتفهم. ومن أزمة إلى أخرى يبرع اللبنانيون في ابداع التعايش، ففي السابع من أيار، يوم غزوة العاصمة بيروت وانتقال المعارك في 11 ايار الى الجبل كانت الأجواء مشابهة. وعلى الرغم من انشغال بعض اللبنانيين بتفاصيل الأحداث الميدانية، الّا أن القسم الآخر كان مستلقياً على أريكته على قاعدة “فخار يكسّر بعضه”، مطمئناً نفسه الى أن السلاح خارج محور منزله وهذا أقله خط الأمان، فيما الثاني يشاهد الأحداث عبر شاشة التلفاز راجياً ربّه.

اجتمع اللبنانيون على هذه السلوكيات في منتصف انتفاضة السابع عشر من تشرين 2019 وكانت معها انطلاقة الارتفاع الجنوني للدولار والغلاء في المواد الغذائية، حتى طالت الأزمة لقمة عيش اللبنانيين “رغيف الخبز”، لكن على الرغم من ذلك فإن التعايش قائم ولو بالقليل من الترفيه، من دون أن يعيش المواطن أي مسؤولية أنه شريك في ايصال طبقة سياسية أوصلت البلاد والعباد الى هذا الدرك، وغاب عنه دوره في نظام برلماني يصنعه الشعب.

هي أزمات يثبت فيها اللبناني أنه “عيّيش”، ومهما اشتدت فلن تمنعه من “نفس أرغيلة” أو “دق طاولة” أو السهر في مناطق آمنة مع الأصدقاء، كأزمة النفايات التي احتلت الشوارع أكثر من مرة وكان المواطن اللبناني وليس الناشطين، متمترساً في منزله، فالنفايات لم تطال منزله بعد ولا تزال في الشوارع. إذاً هي قاعدة تقوم على الفردية، “إذا لم تطالني الأزمة شخصياً فأنا لست معنياً بها”.

اذاً، لماذا يتعاطى الشعب اللبناني بهذه السيكولوجية الجماهيرية؟ هل غمر اليأس طريقه أم أن كثرة الحروب حوّلت الأزمات إلى حالة تجارب يمكن التعايش معها، على قاعدة “الخبرة”؟

من يقرأ كتاب غوستاف لوبون “سيكولوجية الجماهير” يدرك كيف يؤثر الخطاب السياسي على الجمهور، وهو قادر على التأثير باللاوعي الجماعي واستثارة العواطف. وكان نابليون مبدعاً في المجال نفسه، ناسفاً نضال عشر سنوات في الثورة الفرنسية بخطابٍ واحدٍ، وخطف من الثوار شعاراتهم المرتبطة بالحرية والمساواة. هذا تحديداً ما أكده أيضاً الدكتور في علم الاجتماع السياسي طلال أبو عسلة لـ”لبنان الكبير”، موضحاً أن “سياسة التحوير بين الشعوب حاضرة منذ الحرب العالمية الثانية في ألمانيا”. ولفت الى أن “الشعوب اللبنانية تفتقر الى الانتماء الوطني الذي يشكل ركيزة أساسية في تقدّمها ومساندة بعضها البعض، وينحصر هذا الانتماء بالعائلة فقط”.

الشعوب اللبنانية التي انتفضت في ثورة السابع عشر من تشرين كانت منقسمة بين منتفضين وغير متحمسين أو مشككين. وقبيل ضياع الحال في لبنان استطاعت السلطة أن تمتص زخم انتفاضة المواطنين وأسهمت بصورة كبيرة في تفككهم، مستشهدة بسياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي تميّز بعنصريته وصدّه للمتظاهرين، الّا أن الشعوب الأميركية فاجأته في صناديق الاقتراع معلنة الولاء له مجدداً. وهذا حال لبنان بالنسبة الى عسلة، الذي رأى أن “ما فعلته ايران بحق تجنيد الشيعة في لبنان هو إثبات واضح وقاطع بأننا شعوب لا تريد الانتماء الوطني”.

وشدد أبو عسله على مصطلح “شعوب”، معتبراً أنها رداء يتلطّى خلفه اللبناني، طارحاً حلّين إحداهما فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة وتطبيق اللامركزية الادارية .

يقول الفيلسوف جورج أورويل: “ربّما يموت الانسان عندما يتوقّف دماغه… أقصد عندما يتوقّف دماغه عن استيعاب أفكار جديدة”. وهذا ما تحدّث عنه الدكتور في علم النفس عبد الله الجرّاح لـ “لبنان الكبير”، كاشفاً أن “السيكولوجيا الجماهيرية ترتكز على نقاط عدة أهمها علاقة الفرد بالمجتمع والعكس، لأنه لا يمكن للفرد أن يعيش بلا توجيه أو قيادة. ثانياً علاقة الوعي واللاوعي لأن هناك الكثير من الآليات ترتكز على سيكولوجية الجماهير. على سبيل المثال الأوامر التي تصدرها السلطة تحجب حرية الفرد فيها لتولّد حالة من التطرف حيال الشعارات العنيفة”.

وقال الجرّاح: “إن الشعوب تفقد قدرة التمييز بين العواطف البسيطة والكلام المعسول بسبب مواجهتها أنواع الاستبداد والتعصب، ليشعر الفرد حينها بتلاشي شخصيته وتضعضع قيمتها ويرميها في أرشيف فقدان الانتماء الى الوطن، أي التقاء كل الأطراف في عصارة كهربائية تجعلهم يتخبّطون في ما بينهم. أما إذا وجد العطاء والولاء والانتماء الى الوطن فسيندرج تلقائياً التمييز بوجود سيكولوجيا جماهيرية ناجحة لتصبح المعادلة ثلاثية بين شعب – وطن – انتماء”.

المثال الأبسط لسيكولوجيا الجماهير اللبنانية هي الانتخابات الأخيرة في لبنان وتضاف اليها الانتخابات البلدية والرئاسية التي يعيش أزماتها البلد حالياً، إذ أشار الجراح الى أن “الشعب يعيش تحت الضغط القهري إما بشراء حرياته مقابل مئة دولار أو بالمواقف السياسية التي تقوم على أنا مع الزعيم ظالماً كان أم مظلوماً”.

بالنسبة إلى الدكتورة في علم الاجتماع جومانا كيوان فإن “الاعتياد هو عملية تدريب للانسان حتى يصبح سلوكاً يومياً وحياتياً”، موضحة أن “الأوضاع التي يعيشها الانسان، خصوصاً أوضاعنا مفتعلة بفعل سياسة فاشلة، ولأن الدولة غير مسؤولة عن مواطنيها وغافلة عن معاناتهم وعن معالجة الأوضاع المزرية. وفي الوقت نفسه تدّمر الدولة نفسية الناس والمجتمع ليضطر حينها المواطن الى أن يتكيف مع هذه الأوضاع للاستمرارية في تأمين أدنى احتياجاته في ظل تدمير نفسيته”.

وقالت كيوان لـ”لبنان الكببير”: “التكيف، خصوصاً عند اللبناني ميزة يتمتع بها، تحديداً بعد فقدان ثقته بالدولة، من دون أن ننسى أن الدولة تدرّب المواطن بطريقتها (نفسياً واقتصادياً) على تقبّل الأوضاع والتعايش معها”.

شارك المقال