طريق “الاكتئاب” يمرّ بطرابلس… غياب الدعم يزيد حالات الانتحار

إسراء ديب
إسراء ديب

لم يكن العثور على الشاب (ح.ي) مشنوقاً داخل منزله في شارع سوريا – باب التبانة منذ أيّام، خبراً سهلاً وبسيطاً على أهله ومحيطه الذي يعرفه جيّداً ويعرف أنّه كان يُحاول قدر المستطاع تخطّي الاحباط الذي بات يُصيب معظم الشباب اللبناني، ما يدفعه في بعض الأحيان إلى اتخاذ قرار الانتحار من دون تراجع أو تردّد في ظلّ غفلة الدّولة بمؤسساتها عن شعبها وطريقة عيشه.

هذا الشاب الذي أكّد بعض المقرّبين منه أنّه انتحر (ما يستبعد فكرة القتل العمد في هذا النوع من الحوادث التي باتت معتادة بين الفينة والأخرى)، كان نُقل إلى مستشفى طرابلس الحكوميّ بعد حضور الأدلّة الجنائية والقوى الأمنية للكشف على جثته التي أخفت بوفاتها الكثير من الاضطرابات النفسية التي كان يُعاني منها، وهذا ما يُؤكّده أحد المقرّبين منه ومن عائلته لـ “لبنان الكبير”.

ويقول: “إنّ هذا الشاب يعمل في محلّ لبيع المناقيش بالقرب من ساحة النور وكذلك والده يعمل في المحل عينه، ومن المعروف أنّه كان بسيطاً وطيّباً ومهذباً، لكنّه كان يُعاني من اضطراب نفسيّ شعر به شخصياً. ففي احدى المرّات اعترف الابن لوالده أنّه منزعج للغاية وسينتحر إنْ لم يرتاح، لكنّه لم يفعل ذلك، ولوحظ عليه حتّى في عمله أنّه يترك كلّ ما بيده ليخرج من المحل سريعاً بلا استئذان، وفي اليوم الذي انتحر فيه علمنا أنّه عمل لتحضير المناقيش وانسحب سريعاً من عمله ووصلنا فيما بعد خبر موته بهذه الطريقة المؤسفة، وعلى ما يبدو أنّه لم يتحمّل الشقاء في حياته، فهو شاب يحبّ الاستقرار والعيش الكريم، لكنّه وجد أنّ حياته باتت من دون فائدة، فكم سنة يحتاج هذا الانسان ليبني مستقبله ومصيره في هذه البلاد المنكوبة اقتصادياً وسياسياً؟”.

يُمكن القول إنّ الأزمة النقدية التي دخلت عامها الرابع محلّياً، لم يعد بالإمكان التعامل معها بتجاهل أو تساهل خصوصاً على المستوى الشماليّ، إذْ تُواجه المحافظات الشمالية لا سيما في كلّ من طرابلس، عكّار والمنية – الضنية أزمات اجتماعية خطيرة ناتجة عن الضربات المالية المتتالية التي لا يُمكن تفاديها أو تخطيها، وهذا لا يعني أبداً أنّ فكرة الانتحار تقتصر على الشمال وحسب، لكنّها بصورة عامّة باتت أسلوباً للهروب من الجحيم وطريقة إنقاذية لأيّ شاب لبناني، ولم يكن خبر “إقدام شاب على الانتحار في منطقة المصيطبة منذ ساعات، عبر رمي نفسه من الطابق السادس” سوى دليل قاطع على خطورة الاستمرار في النهج نفسه سياسياً واجتماعياً.

من المؤكّد أنّ جريمة انتحار (ح.ي) في التبانة لم تكن الأولى على صعيد هذه المنطقة التي عرفت تاريخاً عريقاً يُدركه القاصي والداني للاشارة إلى قيمتها التجارية والاقتصادية، لكن بعد حروب عسكرية أنهكت قواها وأجبرت القاطنين “الأصليين” فيها ومنهم سياسيون معروفون على الخروج منها، يُمكن التأكيد أنّها باتت غير صالحة للعيش الكريم بعد فقدان الأمل بإمكان النهوض بالاقتصاد المحلّي. وحسب المعطيات الواردة من أصحاب المنطقة، فإنّ طريقة الانتحار والأسباب تختلف من شخص إلى آخر قطعاً، لكنّهم يُجمعون على وجود سبب واحد متكرّر يدفعهم إلى الانتحار في نهاية المطاف وهو اقتصادي، فمن الشبان من ألقى بنفسه من الشرفة وآخر قام بإطلاق النّار على نفسه، أمّا عن خطوة “الشنق” فليست جديدة بل متكرّرة في هذه المنطقة، وحصلت أيضاً مع الشاب (ب.ش) عام 2020 في شارع أمين.

وتُؤكّد المعالجة النفسية ياسمين طيبا أنّ الأفكار الانتحارية تكون ناتجة عن عوامل عدّة أبرزها مرتبط بالأحوال الاقتصادية التي تنعكس سلباً على الانسان، ويمكن أن تكون مرتبطة أيضاً بمرض الاكتئاب الذي من ضمن عوارضه قيام الشخص بأذية نفسه وإنهاء حياته، مع أهمّية التمييز بين حال كلّ شخص وآخر واختلاف الأسباب التي قد تدفع الانسان إلى هذه الخطوة.

وفي تفاصيل هذه الحالة، تقول طيبا لـ “لبنان الكبير”: “لا نعرف الظروف التي دفعت هذا الشاب وغيره إلى الانتحار، لكنّها قد تكون ناتجة عن مشكلات عائلية أو الظروف الصعبة في طرابلس تحديداً والتي تحمل في مناطقها الكثير من الأزمات، إضافة إلى احتمال وجود مشكلات عائلية وأزمات نفسية ناتجة عن مرحلة الطفولة وعدم التربية السليمة أو تعرّض الطفل لتنمر في طفولته، أو في مرحلة المراهقة أو بمرافقة بعض الأصدقاء والتأثر بهم، كما لا ننسى تأثير التعاطي والادمان عبر اعتياد الحصول على مواد مخدّرة وعند عدم القدرة على تناولها تبدأ العوارض الانسحابية مثلاً… هي أمور متشعبة قد تكون ظاهرة أحياناً وغير واضحة أحياناً أخرى، كما قد تكون قائمة على عجز الشخص عن القيام بهذا الفعل حالياً”.

وتُعلّق طيبا على عدم استجابة الأهل لكلام أبنائهم في بعض الظروف إمّا لأنّهم لا يُدركون خطورة حالتهم، أو لأنّهم يعتقدون أنّها “مزحة” أو مجرّد غيمة صعبة ستمرّ، وفي هذه الحال، “كان لا بدّ من الأخذ في الاعتبار كلام هذا الشاب لأنّه يحتاج إلى مساعدة عبر معالج نفسي أو جمعيات تُقدّم خدمات متنوّعة، ويحتاج إلى من يسمعه ويُعطيه الدّعم أمّا الحلّ الحقيقي فكان سيأتي من المريض حتماً، لكنّ يُمكن القول إنّ خطوة هذا الشاب ليست مفاجئة أو غير متوّقعة”.

وعن الاشارات التي يُمكن أن يُعبّر عنها المريض والتي تصفها طيبا بأنّها “تحذيرية”، فهي مختلفة ولا بدّ من ملاحظتها قبل فوات الأوان، مثل “السلوك المتغيّر، الانعزال والانسحاب من المجتمع أو الدائرة الاجتماعية التي ينتمي إليها، عدم توجهه إلى عمله، تراجع نشاطه بصورة ملحوظة، الكلمات التي ينطق بها مع سلوكيات مختلفة….”، موضحة أنّ كلّ شخص يتعرّض لضغوط معيّنة ستكون قدرة تحمّله مختلفة عن الآخر وتعود إلى بنية الشخص النفسية، أمّا عن المرجعية الايمانية “فيأخذها الناس كرادع، لكنّها لا تمنع وقوع هذا الحادث حتّى ولو كان مؤمناً، إذْ يقوم اللاوعي مع التراكمات والضغوط بإصدار هذه التصرفات التي تُعدّ فردية”.

شارك المقال