في ذكرى مولده الشريف… رحمة للعالمين

السيد محمد علي الحسيني

عاشت شبه الجزيرة العربية قبيل مولد النبي محمد (ص) تحديات داخلية منها وخارجية، من عبادة الأصنام إلى تفشي الظلم واستعباد البشر ووأد البنات، وانتشار الفواحش والحروب والمعارك الدامية بين القبائل التي كانت تستمر لسنوات وعقود، إضافة إلى التهديدات الخارجية التي كان أخطرها محاولة أبرهة الحبشي هدم الكعبة الشريفة بجيش عظيم من الجنود والفيلة الذين أهلكهم الله “بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول”. وفي ذلك العام المعروف بعام الفيل خرج من رحم آمنة بنت وهب نور أضاءت له قصور الشام، واستبشر به جده عبد المطلب وسماه محمداً حمداً وشكراً على هذا المولود، ولد المصطفى العدنان الذي بشر عيسى بمولده، “إذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد”، وانتظرت البشرية بعثته ليخرجها من الظلمات إلى النور.

ولادة الرسول… طفولة استثنائية 

ولد رسول الله (ص) يتيماً ذاق طعم اليتم صغيراً، وعاش فترة من طفولته في قبيلة بني سعد بعيداً عن أهله وعشيرته “ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى”، وبعد وفاة أمه وجده كفله عمه أبو طالب وقد كان كثير العيال فقير الحال، فواجه نبينا محمد (ص) طفولة استثنائية صعبة، فالله هيأه منذ الصغر ليكون نبياً رسولاً، وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة التي عاشها نبينا عرف الحب صغيراً فقد غمره جده وعمه ومرضعته حليمة السعدية بالحنان والمحبة، فامتلأ قلبه حباً لكل من حوله، حتى أصبح شاباً ذا أخلاق عظيمة، وبات كل من في مكة يلقبونه بالصادق الأمين، لصدقه وأمانته، حنى أن الناس كانوا يستأمنونه على ودائعهم، بل كان موضع ثقة عند قريش التي عندما أعادت بناء الكعبة واختلف سادتها فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، اتفقوا على أن يضعه أول شخص يدخل عليهم فلما دخل عليهم محمد قالوا جاء الأمين فرضوا به، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه، وهذا عكس الدور الإيجابي والإصلاحي الذي لعبه رسول الله قبل بعثته.

معالم الرحمة في حياة محمد (ص)

غيرت بعثة النبي محمد (ص) مجرى التاريخ، فقد جاء برسالة شاملة للبشرية قاطبة، وهذا ما ميزها عن بقية الرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم بشكل خاص وبرسالة محددة، “وما أرسلناك إلا كافة للناس”، لينشر رسالة ربه ويخرج الناس من ظلم العباد إلى عدالة رب العباد ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن استعباد الناس إلى تحريرهم، وجاء متمماً للأخلاق والقيم والفضائل، وهو القائل (ص): “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، بل جاء ليخلص البشرية من الخوف والعنف، ودعاها إلى المحبة والتسامح، بل كان أكثر الأنبياء الذين التصقت بهم صفة الرحمة “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”، بل إن رحمته تخطت المعقول،”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فهو الذي كان يعود اليهودي المريض الذي كان يلقي عليه الأوساخ، ويقوم عند كل جنازة حتى قال الصحابة إنها جنازة يهودي، فقال لهم (ص): “أليست نفسا”.

إن رسالة النبي محمد جاءت لمواجهة العنصرية المستشرية آنذاك “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”، ووضعت الناس في ميزان عدالة الإسلام كلهم سواسية في الإنسانية والواجبات والحقوق وما يميزهم أعمالهم الصالحة، بل كان رحمة تدب على الأرض، وشجرة تظل بفيئ رحمتها الصغار والكبار، الرجال والنساء، بل كل المخلوقات والكائنات، ليرسخ بأخلاقه قيم الإسلام القائمة على المحبة بين البشر كلهم فقد كان قلبه يسع أمة بأكملها.


*أمين عام المجلس الإسلامي العربي

شارك المقال