المولد النبوي الشريف… إحتفالات عبر العصور

زياد سامي عيتاني

“وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ” لم تكن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي في حب المصطفى عليه السلام سوى تجسيد لحالة العشق الأبدي لصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء الممدود، الذي كان يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم حدثاً إستثنائياً في تاريخ البشرية، له مكانته الغالية في نفوس المسلمين في شتى أركان المعمورة. فقد كرم الله تعالى اليوم الذي ولد فيه رسول السلام فقال سبحانه وتعالى فى كتابه الحكيم ﴿وسلام عليه يوم ولد﴾… وقد درج سلفنا الصالح منذ القرنين الرابع والخامس الهجريين على الاحتفال بمولد خير الورى بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من تلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح، والمراد من الاحتفال بهذه المناسبة الدينية هو تجمع الناس على الذكر والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم، وإطعام الطعام صدقة لله والصيام والقيام إعلاناً لمحبه قدوة الأزمان وحصن الحياة، وإعلاناً للفرح بيوم مولده الذي أذن الله أن يكون موعداً لميلاد نوره فى دنيا الورى، فكان ميلاده ميلاداً للحياة. إذاً، مع قدوم مولده عليه السلام، تتبارى الأمم والشعوب في إحياء هذه الذكرى العطرة، كل حسب طريقته، فتتعدد الطقوس هنا وهناك، وتتنوع مظاهر الإحياء ما بين دولة وأخرى ومدينة وغيرها. وعلى الرغم من هذا الثراء في طقوس الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وتعدد مظاهره غير أن هناك رابطاً واحداً يجمعها وسحابة كبيرة تظللها ألا وهي حب النبي صلى الله عليه وسلم.

النبي كان يصوم يوم مولده:

يرجع الاهتمام بيوم المولد النبوي إلى النبي محمد نفسه حين كان يصوم يوم الاثنين ويقول “هذا يوم وُلدت فيه”.

الاحتفال عبر العصور:

-الأيوبيون أول المحتفلين: من أقدم المصادر التي ذكر فيها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، ذِكر الرحالة محمد بن أحمد بن جُبير الكناني الأندلسي (ولد عام 540 هجرية) وكتاب رحلة ابن جبير (ص. 114 115، قال ما نصه: “يفتح هذا المكان المبارك أي منزل النبي صلى الله عليه وسلم ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي صلى الله عليه وسلم”. وقد دخل ابن جبير مكة في عام 16 شوال 579هـ ومكث أكثر من ثمانية أسابيع وغادرها الخميس الثاني والعشرون من ذي الحجة 579هـ متوجهاً إلى المدينة المنورة كما هو مذكور في رحلته. فكان الاحتفال في شهر ربيع الأول في يوم المولد النبوي الشريف هو عمل المسلمين.

قبل قدوم ابن جبير إلى مكة والمدينة، كان يحتفل به أهل السنة في أرض الله المكرمة، وتشير المصادر التاريخية، الى أن أول من أظهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ملك إربل وكان عالماً تقياً شجاعاً يقال، له المظفر في أوائل القرن السابع للهجرة، جمع هذا الملك لهذا العمل كثيراً من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها كالحافظ ابن دحية والحافظ العراقي والحافظ العسقلاني والحافظ السخاوي والحافظ السيوطي وغيرهم كثير…

إذاً، كان حاكم أربيل الملك المظفر أبو سعيد، أول من احتفل بالمولد النبوي بصورة منظمة في عهد السلطان صلاح الدين، إذ كان يقيم احتفالاً كبيراً كل عام، تنفق خلاله الأموال الكثيرة، والخيرات الكبيرة، حتى بلغت تكلفته 300000 ألف دينار، كل سنة.

-الفاطميون أسسوا للإحتفال في مصر: أما عند المصريين فيعود تاريخ الاحتفال بمولد النبي إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي الذي وضع الأساس الأول للاحتفال بهذا اليوم، وكان يهيئ له أركان الدولة بأكملها، وبحسب المؤرخين: “فإن كبار رجال الدولة المصرية حينها وعلى رأسها الخليفة والوزراء والعلماء ومعهم عامة الشعب كانوا يستقبلون هذه المناسبة الكريمة التي تبدأ من غرة ربيع الأول حتى الثاني عشر منه وكان من السمات الواضحة في هذا العصر الاحتفال بهذه المناسبة والإفراط في صنع الحلوى بأشكالها المختلفة كالطيور والقطط والخيول والعرائس (عروسة المولد). وأسس الفاطميون نظاماً يهدف إلى تخزين جميع المواد التموينية من سمن وسكر وزيت ودقيق، كي تصنع من هذه الحلوى، التي كانت توزع بأمر الخليفة على جميع طبقات الشعب في جميع المناسبات الدينية وخصوصاً المولد النبوي، ومن هنا جاءت فكرة عروسة المولد والحصان وبعض أنواع الحلوى المشهورة بها مصر في هذه الذكرى.

أما في ما يتعلق بخيمة المولد التي تعد أحد أبرز طقوس الاحتفال بهذا اليوم عند المصريين، فتعود إلى السلطان قايتباي (1416-1496)، فحينما تحل الليلة الكبيرة من الاحتفال بالمولد يقيم السلطان في الحوش السلطاني خيمة في القلعة ذات أوصاف خاصة تسمى خيمة المولد، وقيل في وصف هذه الخيمة انها زرقاء اللون على شكل قاعدة في وسطها قبة مقامة على أربعة أعمدة.

-عظمة إحتفالات المماليك: في أوائل عصر دولة المماليك، كان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يتسم بالترف والعظمة، وكان سلاطين المماليك حريصين على مشاركة رعاياهم الاحتفال بتلك المناسبة، وفي عهد السلطان الأشرف قايتباي، كانت تقام خيمة عظيمة تصل تكلفتها إلى ستة وثلاثين ألف دينار، في يوم الحادي عشر من ربيع الأول للاحتفال بالمولد النبوي، ووصف المؤرخون تلك الخيمة بأنها “جاءت من عجائب الدنيا”، وكان يحضر إليها السلطان والأمراء والقضاة والأعيان، وكان يقام سماط واسع.

والاحتفال بالمولد يبدأ من بعد صلاة الظهر بتلاوة القرآن الكريم، وبعد صلاة المغرب كانت تقام موائد الحلوى، وبعد الانتهاء من الطعام يبدأ المنشدون بمدح الرسول وآل بيته، وبعد ذلك كان الفقراء والدراويش يتوافدون إلى الخيمة ويستمرون في الرقص، والسلطان يوزع عليهم الصدقات. وفي صباح يوم المولد كان السلطان يوزع كميات من القمح على الزوايا، وعامة الشعب يقيمون الولائم احتفالاً بالمولد، كذلك كانت تقام داخل البيوت، احتفالات نسائية بتلك المناسبة، بحيث تلتف النساء حول إحدى الواعظات أو المتفقهات فى الدين لسماع حديثها.

الاحتفالات في زمن الدولة العثمانية:

تروي الوثائق التاريخية أن الاحتفال بليلة الحادي عشر من ربيع الأول، أي اللية التي تسبق الثاني عشر من ربيع الأول التي توافق ليلة ميلاد النبي ﷺ، كان احتفالاً رسمياً في زمن الدولة العثمانية، وتتم الاحتفالات بإدارة قصر الباب العالي ابتداءً من العام 1910، وظلت هذه العادة مستمرة حتى تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. كان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بيوم المولد النبوى الشريف، إذ كانوا يحتفلون به فى أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان، فلمّا تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدي. وكان يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم، وجميعهم بالملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة، ثم يقفون في صفوف انتظاراً للسلطان، فإذا جاء، خرج من قصره راكباً جواداً من خيرة الجياد، بسرج من الذهب الخالص، وحوله موكب فخم، وقد رُفعت فيه الأعلام، ويسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثماني وخلفهما جماهير الناس، ثم يدخلون الجامع ويبدؤون بالاحتفال، ثم بقراءة القرآن، وقراءة قصة مولد النبي محمد، فكتاب دلائل الخيرات فى الصلاة على النبي، ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر، فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي، وفى صباح يوم 12 ربيع الأول، يفد كبار الدولة على إختلاف رتبهم لتهنئة السلطان.

ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ميلاداً للرحمة غير المحدودة للانسانية جمعاء، فرسالة الاسلام قائمة على الرحمة، ولذلك قال الله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”. وبمناسبة هذه الذكرى المباركة، علينا التمسك بالسيرة النبوية العطرة، المليئة بالمواقف والأحداث التي تعلِّمنا قِيَماً إنسانية راقية تستقيم معها الحياة وتُعمَّر بها الأرض، وتتآلف بها النفوس إذا ما ترجمناها إلى واقع عملي في حياتنا.

شارك المقال