طرابلس قبل الميلاد… تعاطف مع غزة والاحتفال “ع السكت”

إسراء ديب
إسراء ديب

يُدرك أبناء مدينة طرابلس جدّياً حجم تأثير أحداث غزة المأساوية وانعكاسها عليهم وعلى طبيعة حياتهم اليومية التي تبدّلت بصورة واضحة منذ اندلاع أحداث “طوفان الأقصى” وصولاً إلى الحرب الدموية والفتاكة في فلسطين المحتلّة التي يرتبطون بها تاريخياً، سياسياً ووجدانياً.

ولا يبالغ أحدهم حين يُؤكّد أنّ أيّ حدث طارئ عربياً، قد يُحدث صدى في الفيحاء المثقلة بالهموم والأزمات؛ فمنذ ثورة سوريا وحربها كانت المدينة واجهة وسداً منيعاً ضدّ نظام الأسد واستقبلت حينها الألوف من المعارضين حفاظاً على اعتبارات سياسية ودينية معروفة. أمّا في الحرب الفلسطينية، فلا يتوقف شعور أبناء المدينة بالخجل أمام ما يحدث على أراضيها، بحيث يسعون بصورة دائمة إلى التعبير عن رفضهم وإدانتهم للاعتداءات الصهيونية، لا سيما عبر خطابات المساجد يوم الجمعة أو التجمّعات والتظاهرات عقب الصلاة.

وعلى ما يبدو فانّ للمسيحيين في المدينة أيضاً حصّة من عملية الادانة والرفض لكلّ مجزرة تمسّ البلاد والأطفال في فلسطين، وذلك تمسّكاً بمبدأ الانسانية والوطنية، وهذا ما يرصده متابعون أخيراً مع رغبة الكثير منهم في الاحتفال لكن “على السكت” أو بما معناه التركيز على إحياء الطقوس الدينية لكن بعيداً عن الاحتفالات الصاخبة، وهو ما يُمكن تفسيره بأنّه جاء تزامناً مع قرار مسؤولي الكنيسة في القدس وبلدية مدينة بيت لحم بعدم تنظيم “أيّ احتفال غير ضروري بالعيد” تضامناً مع غزة.

في الواقع، يتمسّك الطرابلسيّون بتعاطفهم ودعمهم لهذه القضية في أفراحهم وأتراحهم، فبعد تقديم طرابلس شهيديْن منذ أيّام في الجنوب نصرة لأهالي غزّة على الرّغم من بعد المدينة الجغرافي عن الحدود اللبنانية – الفلسطينية، تتعاطف المدينة بمسحييها لا بمسلميها فحسب مع هذه القضية، وهذا ما يُترجم اليوم جلّياً قبيل حلول عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية.

وتحلّ الأعياد المجيدة هذا العام على طرابلس، في ظروف مادّية وسياسية لا تدفع أهلها إلى القيام بأيّ خطوة “مبهجة” لا سيما تلك المعلنة منها، وذلك تعاطفاً مع المستجدات الفلسطينية وهو ما أدركه سريعاً مطارنة طرابلس والشمال الذين شدّدوا على عدم تقبّلهم التهاني في دور مطرانيتهم، “تضامناً مع ما يعيشه أهلنا في الجنوب ومع أطفال غزّة الشهداء وجميع الضحايا”.

ولفت المطارنة في بيان، إلى أنّ الميلاد هو مناسبة للتضامن، التشبث بالايمان والرجاء، “وهذه السنة عيوننا تشخص إلى المشاهد المؤلمة من الأرض… تضج فيها اليوم أصوات الحرب وآلات القتل والدمار، آلاف الأطفال انضمّوا الى أطفال بيت لحم الشهداء، آلاف الأبرياء يمتزج دمّهم بدمّ هابيل البار، ولا يزال سواد الموت يجهد ليحجب عن البشرية غسق الحياة”.

فعلياً، إنّ غصّة الجنوب والحرب، تنغصّ الفرحة على مسيحيي الشمال الذين كانوا يُهلّلون لحلول هذه الأعياد، صحيح أنّ المؤمنين منذ أعوام لم ينعموا بفرحة وراحة مادّية ونفسية تُشعرهم بلذة العيد، لكن يُؤكّد متابعون أنّ الخيبة هذا العام تختلف عن العام الماضي أو السنوات السابقة (التي عاشت فيها طرابلس أزمة اقتصادية قاسية وغير مسبوقة ابتداءً من العام 2019)، إذْ يُسجّل هذا العام خذلان من “دم” وطنيّ وعربيّ “مهدور” لا يُعطيهم فرصة الاحتفال خصوصاً بصورة علنية، باستثناء افتتاح رعية مار مارون في طرابلس معرض الميلاد حيث أضيئت شجرة العيد وسط باحة الكنيسة، ببركة رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية المطران يوسف سويف، وإضاءة شجرة الميلاد في كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في الزاهرية، إضافة إلى إضاءة شجرتين في الميناء (الغروبي، وعند البرْكة حيث وضع العلم اللبناني كما الفلسطينيّ عليها) وتزيين شجرة الميلاد عند مستديرة النيني – طرابلس.

فرحة متواضعة

يُؤكّد متابع لـ “لبنان الكبير” أنّ الطرابلسيين يشعرون بالحزن عموماً، لا سيما أهالي الميناء الذين يُحاولون قدر المستطاع الاندماج في الأجواء الميلادية، “لكنّ احتفالاتهم تبقى متواضعة تزامناً مع أزمتين أولها سياسية وثانيها اقتصادية”. ويقول: “قوى عدّة اعتذرت عن الاحتفال تعاطفاً مع الأحداث، بينما حصلت احتفالات ضمن الكنائس لكن من دون بذخ، لأنّ الجميع يُحاول الاحتفال في أجواء بسيطة ومتواضعة ولا يُريدون جرح أحد بها”.

وفي الميناء، نصبت شجرتان بمبادرات فردية لا بلدية، ووفق مصدر بلديّ فإنّ العجز في صندوق بلدية الميناء كبير ولا يسمح بالقيام بأيّ خطوة. ويقول لـ “لبنان الكبير”: “الصندوق صفر، والعمّال لم يتلقّوا رواتبهم التي لا تتجاوز الـ 150 دولاراً منذ ثلاثة أشهر، لذلك لا إمكان لدينا لوضع شجرة وغيرها، وبالتالي ندرك أنّ مشكلة البلديات باتت عامّة، لكنّها قاسية لأنّنا نتلقّى أساساً أموالنا من مصادرنا الثلاثة وهي: الرسوم والضرائب التي لا يدفعها الجميع، وزارة الاتصالات، والصندوق البلديّ المستقلّ، وباتت كلّ مصادرنا تنحصر بالمصدر الأوّل، وأخيراً المصدر الثالث الذي تحرّك منذ ساعات بعد إعلان وزارة المال أنها حوّلت الى مصرف لبنان، الأموال المخصصة كعائدات إنمائية لـ 688 بلديةً و59 اتحاداً من الصندوق البلدي المُستقل، لكن عموماً نُواجه في الميناء مشكلة مادية كبرى نضيف إليها تراجع معدّل الاستثمارات والبناء، فلا رخص بناء تصدر من البلدية كما يحصل في طرابلس التي يختار المستثمرون التوجه إليها عقارياً”.

آراء

ومن أحياء طرابلس، تستعدّ ماري ع. (55 عاماً) للاحتفال بالأعياد بين أسرتها وفي منزلها، وتقول لـ “لبنان الكبير”: “أنا من الزاهرية وكنت أعيش فيها مع زوجي وبناتي قبيل مغادرتي إياها منذ أعوام بعد حرب جبل محسن وباب التبانة إلى زغرتا، لكنّني أزورها سنوياً مع حلول الأعياد بالتوجّه إلى كنيسة مار مارون – شارع المطران، للصلاة والاستماع إلى التراتيل والترانيم الدينية وقرع الأجراس وحمل الشموع، ولا أدرك ما إذا كنّا سنقوم بالسير على الطرق داخل أحياء المدينة في العيد كما كان يحدث سابقاً، لكنّنا سنحتفل مع أسرتنا في عطلة هذا العيد بعد إتمام واجباتنا الدينية، فلا الوضع الاقتصادي ولا الأمني يسمح لنا بالفرح كما كان سابقاً”، مؤكّدة تعاطفها مع القضية الفلسطينية وكلّ الضحايا الذين “لا ذنب لهم في حرب لا تُجدي نفعاً”.

أمّا بيار د. الذي يعيش في الكورة ويزور طرابلس أيضاً خلال الأعياد، فيُؤكّد أنّ لذة العيد لم تعد كالسابق، معتبراً أنّ اللبنانيين عموماً يعشقون أجواء الأعياد والفرح، لكن في هذه الأعوام باتوا “على قدهم” بسبب الأزمات المالية. ويقول: “نشعر بالاشمئزاز أحياناً من الوضع السياسي في البلاد”.

وفي جولة لـ “لبنان الكبير” على الأسواق، لا يُخفي الكثير من التجار أنّ الحركة في سوق طرابلس “غنية” أكثر من أيّ وقتٍ سابق، ويُؤكّد أحد بائعي السكاكر أنّ الكثير من المسيحيين (من مختلف المناطق) يقومون بزيارة المدينة لشراء الحلوى من بعض المحال المعروفة أو غير المعروفة، وذلك حسب حالتهم الاقتصادية وقربهم من المدينة. فيما تُؤكّد صاحبة محلّ ملابس من سوق العريض أنّ “الاقبال يُعدّ مقبولاً نوعاً ما في هذه الأيّام، خصوصاً وأنّ الكثير من الشماليين يرون أسعار أسواقنا تنافسية ويُمكن التفاوض فيها، لكنّها ليست حركة ممتازة، ويُمكن تفسير ذلك أنّ المحتفلين يهتمون بالطعام الذي سيُقدّمونه للزوار أكثر من الملابس وتحديداً هذا العام”.

شارك المقال