غريب مثل الفتى الروسي الأبيض

محمد علي فرحات

ما بعد الرها ونصيبين الى جهة الشرق، تلك السفوح تمتد وتؤدي صعوداً الى جبال اختبأ فيها فلاسفة ومترجمون وقطاع طرق وباعة أوهام.

هناك جذور سركون بولص، الشاعر العراقي – الأميركي الذي كتب بالعربية، فاجأت قصائده الشعراء قبل القراء، لكن القصائد بقي معظمها على الورق، على هذه الطاولة أو تحت تلك الوسادة، ولكن ليس في غرفة واحدة في بلد واحد، أوراق مبعثرة في مدن متباعدة شرقية وأوروبية وأميركية. وبعض القصائد المبعثرة التم شمله في كتب قليلة.

التقينا مرات قليلة عابرة، كان يشبه الفتى الروسي الأبيض ابن الجيران في عين المريسة القديمة، والذي أدخلني بيته فرأيتيف يجمع المهجرون وطناً كبيراً في غرفة أو غرفتين، وكيف تتواصل أرواحهم مع الجذور البعيدة بواسطة الموسيقى والأشغال اليدوية – الأرتيزانا.

الشاعر العراقي يشبه الفتى الروسي الأبيض، لكن وطنه ليس مختصراً في غرفة أو غرفتين، إنه مبعثر مثل قصائده في أمكنة متباعدة، وحتى موته حلّ في منزلة بين منزلتي الوطن ودار الهجرة.

“ومن غير أن نولد، كيف نحيا مع الريح

دون كفالات: يد النوم مدلّاة على مهد الوليد حتى

تأتي الظلال”.

على رؤوس الأصابع عاش أهلها في القرون الوسطى ثم طردتهم الحروب الى بلاد أخرى بعيدة، من يعرف في هذا الشرق أسلافه، الكل يروي خيالاته، والتاريخ افتراضات قدسية مفتعلة.

أتى بعد ظهر أمس ولم يسخن مكانه ثم أطل من نافذة البيت صارخاً بالمارة: ارحلوا يا غرباء.

كلّ يبدأ من صفر الآخرين ليسجل بداياته وينعتها بالخالدة.

بلاد عاش أهلها في القرون الوسطى، ثم رحلوا، لم يرحلوا جميعاً، بقي أفراد قلة يتغلغلون في شوارع المدن في منحنيات المزارع، أفراد انتبهوا فجأة الى أنهم شعراء.

كيف أن الشاعر لا يرحل، يكتب عن البعيد من دون أن يبتعد، الكتابة فعل مواز، أو أنها فعل بديل، أو أنها عملية تحفيز.

كأن القصيدة هي الوقفة الأخيرة قبل القفز، الوقفة على رؤوس الأصابع.

ردد بعض الدارسين العرب ولم يؤكدوا أنهم زاروا البيت الذي سكنه المتنبي في حلب حين كان يرافق سيف الدولة الحمداني ويمدحه، وجال آخرون في وادي حنيفة قرب العاصمة السعودية الرياض وتلمسوا الأماكن التي عاش فيها جرير، ونظروا من خلال بعض قصائده الى طبيعة المكان وترابه وصخره ونباته.

ويعتني الانكليز ومن بعدهم أهل أوروبا وأميركا الشمالية بالأماكن حيث ولد أو عاش أدباء ومفكرون وفنانون وعلماء وسياسيون، وهم يثبتون على المباني أسماء الأعلام الذين عاشوا فيها مع تاريخ دقيق لفترة السكن. وفي هذه الاشارات يتعين الأعلام كبشر ولا يبقون مجرد ظلال ضائعة، وهذا يقربهم من الناس ويجدد حضورهم في جماعة تحس أنها تبدأ حياتها من ماض ملموس وليس من أوهام.

ولمكان العيش دلالة في الدراسات الأدبية والفنية والاجتماعية، إذ لا يمكن فصل النص عن صاحبه بإطلاق، هذا الفصل تعتمده مدرسة في النقد ذات نطاق محدود.

في كتاب شريفة زهور “أسرار أسمهان: المرأة والحرب والغناء” نقرأ هذا المقطع عن أماكن عيش الفنانة:

“زودني الكثير من الكتاب وأفراد العائلة بمعلومات عن الأماكن وبصور ذهنية ولحظات لا تستطيع الكاميرا استعادتها. رأيت المربع السكني الذي عاشت فيه عائلة اسمهان في فترات فقرها في القاهرة، كما رأيت الحوائط التي غطاها الغبار الآن في غاردن سيتي بشرفاتها المبنية على طراز الأرت ديكو الذي ذاع وانتشر في الثلث الثاني من القرن العشرين. أستطيع أن أرى أسمهان وهي تبكي في غروب جميل كما يتذكر محمد التابعي بجوار النيل، أو رؤيتها وهي تخرج مصحفها الصغير من حقيبتها. لم يكن من الصعب تخيل أسمهان وهي تنصت بتركيز الى الموسيقى أو تمشي الى بار فندق الكونتيننتال أو تجلس على كرسي من البامبو في شرفة فندق شبرد القديم (احترق في حريق القاهرة قبل ثورة 1952 بفترة قصيرة).

وعلى بعد أميال في جنوب سورية، صورت المنزل الأصفر الذي بناه حسن الأطرش لأسمهان في السويداء بشجر أرزه. ومع أنه يتبع الجيش السوري في الوقت الحالي، إلا انني حاولت أن أتخيل القوات الخاصة بزيهم الرسمي وهم يحيطون بأسمهان أمام المبنى. وجدت القلعة التي بناها والد زوجها إسماعيل الأطرش فوق قرية العرة والتي تقع أمامها ساحة للتجمعات العامة. رأيت غرفتها داخل السياج الحجري وفوق الباحة القديمة والمضيفة القديمة بتكاياتها، الشعارات المكتوبة على الجدران الحجرية القديمة، كما رأيت بيت ومضيفة فرع آل الأطرش في السويداء. حملقت طويلاً في جانب الجبل والطرق الصخرية حيث كانت تعدو بلا خوف على حصانها، وشوارع سوق الحميدية الشهير في دمشق حيث كانت تشتري الحرير والتسجيلات.

حاولت أن أدخل الفندق الدمشقي الذي كانت تفضله حيث يقال إنها أعطت نفسها جرعات زائدة من دوائها، أورينت بالاس Orient Palace، فاستجوبني المسؤولون السوريون والإيرانيون الذين يديرونه لخدمة السياح الإيرانيين، ثم تبعتها مرة أخرى الى مصر. تعقبت مسارها الى القدس، وعبرت ما كان يعرف بمملكة شرق الأردن حتى مكان موعدها مع أخيها غير الشقيق طلال على الحدود السورية”.

لا حكمة ولا رعونة هذا وطني. يعاد تكوينه مرة كل عشرين سنة. مرة كل عشر سنوات. مرة كل خمس. وطن في طور التكوين، وأنا المواطن لن أستطيع إعادة تكوين نفسي لأنسجم مع التوازنات الجديدة للقوى الإقليمية والدولية. كيف أحب ثم أكره تبعاً لتوازن الآخرين بعيداً من القلب والوجدان؟ كيف أحتفظ بكوني إنساناً فرداً يراكم تجربته حتى آخر العمر؟ كيف أتصرف كطفل وأنا في الخمسين، كشيخ وأنا في العشرين؟ لا حكمة لي ولا رعونة، هكذا يريدونني صدى لإعادة تكوين لا مستقر لها.

شارك المقال