مصروف العائلة اللبنانية يتخطّى الخيال… كيف تتأقلم؟

جورج حايك
جورج حايك

لا تًحسد العائلة اللبنانية على الظروف المعيشية التي تمر بها منذ العام 2019 وبدء الانهيار المالي وارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسية ليُثبّت منذ فترة على الـ89 ألف ليرة للدولار الواحد. وقد أدت التقلبات في العملة الوطنية أو فقدان قيمتها إذا صحّ التعبير، إلى زيادة الفروق بين الشعب وغياب العدالة الاجتماعية، وحتماً ارتفاع نسبة الفقراء في المجتمع اللبناني.

أهم دراسة نتجت عنها أرقام صدرت في نيسان 2023 عن “الدولية للمعلومات”، وتبيّن فيها أن كلفة المعيشة ارتفعت بنسبة 196%، وخلُصت إلى أن عائلة مؤلفة من 4 أفراد، تتراوح كلفة معيشتها بين 39 مليون ليرة و77 مليون ليرة شهريّاً بالحدّ الأدنى مع احتساب تكاليف الخدمات العامة، كالكهرباء والاتصالات من دون احتساب كلفة الصحّة والاستشفاء! علماً أن الدراسة تتحدّث عن عائلة متقشفة نسبياً، وهي جرت منذ 10 أشهر، وبالتالي تضاعفت نسبة المعيشة منذ ذلك الوقت حتماً.

واللافت أن المواطن اللبناني جبّار لأنه يحاول أن يتأقلم مع الأزمات المستجدة على الصعيدين الاقتصادي والمالي، إلا أنه كلّما استبعد نفقات من الكماليات، يشعر أنه بات عاجزاً عن تأمين الأساسيات، وما أن يبدأ بعملية إعادة تنظيم مصروفه حتى يعود ليدخل في دوامة معيشية جديدة بسبب فرض ضرائب جائرة ورسوم لا تتطابق مع قدراته والأجر الذي يُدفع له.

وعند الكلام عن الأجور، فقد بلغ متوسطها الواقعي والمدعوم بالزيادات أو المنح الطارئة والمساعدات 25 مليون ليرة شهرياً للعاملين في القطاعين العام والخاص، مع العلم أن نحو 20 إلى 30 في المئة من إجمالي العاملين يتقاضون رواتبهم كلياً بالدولار الأميركي، ومع ذلك لا تسمح لهم هذه الأجور بالتأقلم مع تفاقم التكاليف المعيشية.

وتؤكد هذه الفجوات صدقية التقارير الدولية بأن 80 في المئة من سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر، و70 في المئة من الأشخاص يواجهون صعوبات في التأقلم مع النفقات المتزايدة.

وتضع هذه الأرقام لبنان في المرتبة الأولى لمؤشر التضخم، إذ سجل أعلى نسبة تضخم في أسعار السلة الغذائية حول العالم، محققاً رقم 139 في المئة نسبة تغير سنوية في مؤشر تضخم أسعار الغذاء، متفوقاً بذلك على زيمبابوي التي سجلت نسبة 138 في المئة، لتتبعهما الأرجنتين بنسبة 103 في المئة، وإيران بنسبة 73 في المئة.

وإلى جانب “تسجيل” لبنان المرتبة قبل الأخيرة في مؤشر التضخم العالمي، تشير التقارير المالية الدولية إلى أن الليرة اللبنانية تتصدر قائمة أسوأ العملات من حيث الأداء السلبي حول العالم.

وليس سراً أن مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان، يواصل الارتفاع، وهو يستخدم لتتبّع معدّل التضخم وتكلفة المعيشة، مدفوعاً بمضاعفة نسب التضخم وتدني القدرة الشرائية الناتجة عن استمرار انهيار العملة الوطنية، ما أنتج حالة مستمرة من ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي بات من الصعب ضبطها أو السيطرة عليها. وقد بلغت نسبة تغير أسعار الغذاء 81 في المئة، مع ملاحظة ميل مؤشر الغلاء العام الشهري الى الهدوء النسبي بفعل الاستقرار الآني لسعر الدولار على 89 الفاً.

وعلى الرغم من استقرار سعر الصرف في السوق الموازية، الا أن أسعار الخضار والمواد الغذائية والاستهلاكية ارتفعت بنسب متفاوتة.

لكن هذا الواقع المريب وشبه الكارثي ليس مفهوماً للمواطن الذي يقف عاجزاً أمام هذا التضخم، وتوضح البروفسورة في ملاك كلية العلوم الاقتصادية في “جامعة القديس يوسف” سهام رزق الله أنه عندما تكون هناك أزمة في النقد وسعر الصرف في بلد “مدولر” مثل لبنان، لا بد من أن تحصل تداعيات قاسية على الوضع الاجتماعي لجهة ازدواجية العملة أي الليرة اللبنانية والدولار الأميركي، إلا أن علينا الاعتراف بوجود شريحة اجتماعية يصل إلى يدها الدولار الأميركي وهي شريحة واسعة ونسبتها تكبر، فيما لا تزال هناك شريحة أخرى تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية، وهذا ما يؤدي إلى تراجع في العدالة الاجتماعية وزيادة الفروق الاجتماعية.

وتلفت رزق الله إلى أن الذين يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية لا يعانون من تضخم الأسعار فقط، بل أصبحوا، للأسف، على هامش المجتمع، وعاجزين عن الطبابة والاستشفاء، وخصوصاً أن أسعار التأمين الصحي أو الرعاية الصحية باتت بالدولار، علماً أن مؤسسات التغطية الصحية الرسمية التابعة للدولة أصبحت مساهمتها قليلة جداً، إضافة إلى أعباء الأقساط المدرسية والجامعية، وقد تحوّلت إلى الدولار أيضاً. لذا يمكن القول ان المعاناة الحالية تأتي من خطر التعامل بعملتين، وهذا ما ينطبق على موازنة الدولة، فإيراداتها بالليرة اللبنانية ونفقاتها بالدولار!

من المؤكّد أن الدولة تجازف في مسألة الدولرة غير الرسمية، وفق رزق الله، فهي لا تعترف بالدولار كعملة رسمية، على الرغم من أننا أصبحنا في أعلى مستويات الدولرة أي بنسبة 90 في المئة، ما يسبب فروقاً اجتماعية كبيرة.

وترى رزق الله “أن التضخم ناجم عن الفرق بين العملة الوطنية وسعر صرف الدولار، وإذا توخينا الدقة نلاحظ أن المنتجات والخدمات باتت بالدولار وسعرها أقل بالمقارنة مع الوقت الذي كان فيه سعر الصرف 1500 ليرة، إلا المنتجات التي ارتفعت أسعارها عالمياً”. هذا ما يشعر به من يتقاضى أجراً عالياً بالدولار، أما من يتقاضى أجره بالليرة اللبنانية فسيواجه صعوبات لأن قدرته الشرائية أصبحت ضعيفة.

وتشير رزق الله إلى أن التضخم تطوّر نتيجة تدهور سعر الصرف، وهذا تضخم مستورد، يحصل في الدول التي يكون استهلاكها مستورداً.

لا شك في أن الدولرة شبه الشاملة كانت العنصر الأساسي في استقرار سعر الصرف، وهذا ما تؤكده رزق الله، معتبرة أن ذلك حصل بعدما جُفف معظم السيولة بالليرة، وتراجع إمكان المضاربة بالليرة اللبنانية وتراجع أيضاً اللجوء إلى الصرافين لشراء الدولار وبيعه.

وتذهب رزق الله أبعد من ذلك، وتقترح الحل بإعتماد نظام العملة الصعبة أو الملاذ الآمن، بمعنى أكثر شعبية الدولرة الشاملة الرسمية التي تعتبرها الأكثر فاعلية، بل تساهم في ردم الهوة الاجتماعية بين كل فئات الشعب التي تسببها ازدواجية العملة، وتصبح حلاً لانتشال الشرائح الاجتماعية المهمّشة من عجز العملة الوطنية، إذ فقدت قدرتها على تأمين كلفة المسكن والطبابة والتعليم بعد دولرتها.

أما معدلات الفقر في لبنان التي تحددها المؤسسات الدولية فتحتاج إلى نظرة أخرى، وربما ينقصها الدقة، وتشرح رزق الله أن الأرقام التي تتداولها هذه المؤسسات تستند إلى الاقتصاد المُعلن، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك اقتصاداً مخفياً يُوازي الاقتصاد المُعلن، وتكشف سرّ هذا الأمر الذي يظهر من خلال فائض الدولار الواضح في السوق اللبنانية، ما يعني أن نسبة كبيرة من الناس تعيش في مستوى أعلى بالمقارنة مع ما كانت تعيشه خلال أعوام كان فيها سعر الصرف 1500 ليرة. وعلى الرغم من الأحداث الساخنة حولنا وغياب السيّاح والمغتربين عن لبنان، نرى المطاعم “مفوّلة” والمؤسسات السياحية ناشطة، وهذا سببه الدولرة التي شملت القطاعات اللبنانية كافة، من هنا أصبح هناك أغنياء جدد وفقراء جدد، وهذا بسبب الموضوع النقدي، وعلاج الأزمة متعدد الأطراف ويبدأ بالشق النقدي. الفقراء يتجسّدون في الذين يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية، والأغنياء يتقاضون أجورهم بالدولار.

ختاماً، تضع رزق الله مسؤولية الأزمة على إزدواجية العملة، وكل الأمور مرتبطة بها كمستوى الفقر ومصروف العائلة اللبنانية ومستوى التضخم، كذلك لها تأثير على موازنة الدولة وتحديد مستوى الدين العام والحد الأدنى للأجور، وبالتالي مفتاح حل المشكلة اعتماد الدولرة الشاملة الرسمية واختيار نظام سعر الصرف المناسب.

شارك المقال