القارئ الجيد هو من يصنع الكاتب الجيد

د. زياد علوش

يقول القارئ الأشهر في العالم الاسلامي الشيخ مصطفي اسماعيل رحمه الله، “القراءة” عايزة مجاوبة “ذواقة”، السميعة هم من علموني، وتعليمي تعليم سمع، فكانوا السميعة خبراء مقامات وغير ذلك.

الإسقاط: أن القارئ الجيد هو من يصنع الكاتب الجيد.

الاشكالية: وقد حل العرب في ذيل الترتيب حسب إحصاءات رصينة في القضية الأساس “القراءة” فإن أمة “إقرأ” لا تقرأ!

“سانت بيف” اسم عرف به شارل أوجستان كبير نقاد فرنسا في القرن التاسع عشر، في كتابه “شاتوبريان وجماعته الأدبية” يقول: “إذا عرفت أن تقرأ كتاباً قراءة جيدة من دون توقف عن مواصلة تذوقه فذلك هو النقد؛ والمهمة الأولى والأخيرة للناقد: أن يقرأ فيفهم فيحب أو (يكره) فيقدر أن يحكم ثم يسهل للآخرين ما قرأه وما فهمه وما أحبه”، والتذوق الفني برأيه “يعتمد على التأثير الذاتي بالجدة والبراعة في الخلق والإبداع، وهو ناتج عن موهبة وثقافة، لا غنى لأحدهما عن الآخر في الإقناع بالجودة والرداءه”. ورحم الله العماد الأصفهاني الذي يقول: “إني رأيت أنه لا يكتب أحدٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده؛ لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، انها عبر دالة على إستيلاء النقص على جميع البشر”.

على الرغم من المزايا الكثيرة التي توفرها منظومة التواصل والاتصال ومحركات البحث…، إلا أن من البديهي أن نذكر أن وجود هذه المنظومة ليس هو الأساس في انتاج قصة شغف جديرة بالمتابعة، وإنما الأساس هو وجود أسس واضحة لمعنى الكتابة والتحليل ومغزاهما… لماذا نكتب؟ ولماذا نبحث ونحلل؟ إنها أسئلة جداً بسيطة، ولكنها حرجة. قد لا تثير إستغراب الكثيرين وربما كبار الكتاب والمحللين، وليس لديهم مفهوم واضح لهدف الكتابة وعوامل نجاحها، التقنيات المتطورة، وأساليب التحليل الحديثة، تعد عاملاً ثانوياً، وأن العامل الأهم في التحليل هو تناوله نقاطاً جديدة لم يتم التطرق اليها من قبل، أو نقاطاً تم بحثها، وما زال هناك نقص في جوانب معرفية خاصة بها، بحيث أنه يمكن للبحث من خلال ذلك أن يضيف شيئاً الى المعرفة القائمة في مجال التخصص، وتظل التقنيات وأساليب التحليل أدوات، وليست أهدافاً للكتابة والتحليل .

يذهب الدكتور بدران بن لحسن الى القول: “المثقف الطبال هو المثقف الذي يضع وجهه على الأرض ليداس، ويحني ظهره ليمتطى، ويسارع هذا الطبال أيضاً إلى إحداث ضجة تصد سمع ولي نعمته عن سماع صوت الحق والحكمة أو الاستماع لشكاوى الناس أو اعتراضاتهم، ان هذا الطبال يفعل ذلك وأكثر، ويستعمل في ذلك أي مقدس ديني أو دنيوي”.

اصطفاف المثقف وراء وجهات نظر جامدة بدوافع غرائزية وأدوات متواضعة، تدفعه على الدوام الى الطلب الى الخياط تفصيل “طقم” للزر الذي بحوزته وليس العكس.

الكتابة “السريعة” تشبه شجرة خريفية تعرّت من أوراقها ويبست من دون أمل بحلة جديدة، توصلها اللاثقة الى الانتحار المهني والانساني، في نهايتها يدرك صاحبها أنه كان يقوم بأعمال شاقة لم يعد قادراً على الاستمرار فيها عندما تلعي نفسه، تجاه كل حرف وكلمة وجملة، فالرباع بات عاجزاً عن اضافة أي وزن مهما تناهى صغره، بمعنى استنفاذ كمية الادعاءات المزيفة حتى عن كلمة أو موقف بفعل الهرمونات السياسية والاجتماعية المغشوشة التي أدت الى ضمور العضل الفكري والأخلاقي وكساد المنتج.

بغض النظر عن الاعتبارات الضاغطة التي باتت تحكم معظم المهن زمن العولمة، وقد تريعنت المهنة، لصالح تبعيات التمويل، التي تتطلب التطبيل لسرديات تؤدي في أغلب الأحيان الى ضياع الفرص الانسانية البديلة الممكنة في الوصول نحو الأفضل، لذلك توضيحاً وليس تبريراً حرية الموقف والبحث عن الجدوى الحقيقية هي الأساس.

إذا ذهب الشغف بشيء، تراجعت درجة العناية به، وخرج عن بؤرة الاهتمام، وأعطي فضلة الوقت وفضلة الجهد، ثم لا يلبث أن يصير عبئاً يضيق به صاحبه ويسعى الى التخلص منه، وينطبق ذلك على عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء!

الابداع يتطلب الدوافع وليس الذكاء وإن تضمنه، المقتلة هي ممارسة الضغط والعنف على الكلمات والمواقف والاستنتاجات لتخرج، دعها تتدفق وتلح بنفسها، كل ما عليك اعطاؤها الفرصة عندما تبلغ مرحلة النضوج، الكاتب والمحلل أياً كان يحتاج الى الإلمام بأصول الحرفة وتقنياتها وأدواتها المناسبة كأي مهنة أخرى، والأهم من ذلك كله أن تكون لك قضية انسانية حقيقية.

بين التحليل المنطقي ومهنة الناطق باسم المحور، لا مشكلة أيها الزميل بأنك مقتنع بسياسة أي من المحاور في هذا العالم، لكن المشكلة أن لا تقرأ ما تؤمن به أو لا نقدياً بقصد التوصل الى مقاربات موضوعية وأن تكون مجرد بوق ينطق تحت إغراء الامتيازات كناطق رسمي للمعلومات المسربة.

حذاري ممن يفرشون الأوطان والانسانية، لفاسدي ومفسدي الداخل ومستعمري الخارج تحت أية حجة كانت فكلاهما وجهان لعملة واحدة، ارتكاب الخطيئة عمل إنساني، لكن تبرير الخطايا عمل شيطاني، ولهذا مهما بلغت فداحة خطيئتك فاعلم أن الغفران وارد لأننا كلنا نخطئ، لكن إياك ثم إياك أن تحاول تبرير الخطايا فهذه خطيئة لا تغتفر وليس من انهيار العلاقات حينها مفر!

يتفق دوستويفسكي مع تولستوي في هذه النقطة، ففي رائعة “الجريمة والعقاب” بطل الرواية رازوخين وهو يخاطبُ زوسيموف : “إن الأمر الذي يغيظني في هذا كله أكثر مما يغيظني أي شيء آخر ليس وقوعهم في الخطأ، فالوقوع في الخطأ يمكن التسامح فيه دائماً، حتى إن الخطأ شيء رائع فعلاً لأنه يؤدي إلى الحقيقة. ليس الخطأ إذن هو الذي يغيظني منهم، وانما يغيظني إصرارهم على إنكار الأخطاء التي يقعون فيها”.

وأنت ترى ملايين التفاعلات على الشبكة العنكبوتية لنجوم التفاهات، وأصحابها أي “المعجبين” يجهلون على سبيل المثال أبرز علماء “نوبل” في المجالات المتعددة، فإنك تدرك معضلة صناعة الكاتب الجيد.

لا تقرأ لتعارض وتفند ولا لتؤمن وتسلم ولا لتجد ما تتحدث عنه بل لتزن وتفكر.

شارك المقال