خيّم الحزن على عكّار بعد رحيل ثلاث فتيات بحادث سير مرّوع على أوتوستراد القلمون يوم الجمعة الفائت، فهذه المحافظة التي استذكرت منذ أيّام مرور ثلاثة أعوام على انفجار التليل (وقع في العام 2021 من دون الوصول إلى العدالة)، تستقبل في شهر الفاجعة الماضية، فاجعة أخرى جديدة لم يكنْ من السهل على الأهالي تقبّلها.
الحادثة التي سُجّلت بالصورة، تسبّبت في مقتل ناتالي عبّاس من بلدة خربة داود، رزان خضر من مشتى حسن ونورهان جنيد من عكّار العتيقة، وإصابة أسعد عقل وهو من المنية (وقيل وفق أحد مختاري المنطقة إنّه يعيش في عكّار) بجروح متوسطة نظراً الى جلوسه في المقاعد الخلفية مع الشابة جنيد، لكنّ هذه الفاجعة التي استقبلها الشمال بوفاة ناتالي ورزان أولاً، واستُكملت بوفاة نورهان بعد يوم حين لم تتحمّل الألم ثانياً، فتحت من جديد ملف طرق “الموت” التي باتت سبباً رئيساً لرحيل الكثير من الشبان أخيراً، خصوصاً على أوتوستراد الشمال.
أهالي الفتيات العشرينيات الذين فرحوا بتعليم بناتهنّ، لا يتمكّنون من البوح حالياً حتّى بكلمة واحدة في هذه الظروف، لكن “لبنان الكبير” حاول التواصل مع بعض المقرّبين لمعرفة تفاصيل مرتبطة بالحادثة. ويقول المختار أحمد حسن وهو مقرّب من عائلة عبّاس لـ “لبنان الكبير”: “يُقال إنّ ناتالي التي كانت تقود السيّارة وتبلغ 24 عاماً، تعرّضت لذبحة قلبية حادّة ومفاجئة قبل الحادثة أثناء قيادتها وهذا ما أكّده تقرير الطبيب الشرعيّ، ونأسف لرحيلها وفقدان هذه الصبية النّشيطة التي كانت تُجري دورة تطوّعية في الصليب الأحمر-الكورة مع أصدقائها، وهو ما يُفسّر مرورهم ضمن هذه الطريق حينها”. أمّا مختار عكّار العتيقة محمّد شاهين فيصف حزن البلدة بـ “العميق”، قائلاً: “وفاة نورهان طالبة البلمند جارح، والبلدة مجروحة على فقدانها وهي البنت الوحيدة على ثلاثة إخوة”، وهو الحزن عينه الذي يُشدّد عليه المختار محمّد عبده، خصوصاً حينما تحدّث عن والدها الذي تأثر به النّاس وهو الدكتور الجامعيّ جمال جنيد وكذلك والدتها المعلّمة.
أمّا رزان ابنة مشتى حسن، فحضر عزاءها مفتي عكار الشيخ زيد محمّد بكّار زكريا، معبّراً في خطبة ألقاها عن أهمّية الإيمان بالقضاء والقدر، وقال: “إذا وقع القدر لنقل إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا شكّ في أنّنا أمام مصاب أليم وعظيم لكن إيماننا بربّنا وحسن ظنّنا به، وجب علينا الإيمان، الصبر والرّضى بقضاء الله وقدره”.
مصدر لـ “لبنان الكبير” يُؤكّد أنّ مراسم التشييع لم يحضرها أو يُتابعها جهاز أمنيّ واحد، على الرّغم من صعوبة الحدث وضرورة التحقيق فيه، (لأنّ من يُتابع الفيديو الذي نُشر الكترونياً، يرصد غموضًا حول كيفية وقوع الحادثة)، لذلك يفترض وجود أربعة سيناريوهات للحادثة لا بدّ من متابعتها: الأوّل، صدق تقرير الطبيب عن ذبحة ناتالي القلبية وعدم تمكّن صديقتها رزان من معرفة كيفية التحكّم بمقود السيّارة لأنّها لا تعرف القيادة. الثاني، احتمال تعرّض السيّارة لملاحقة من سيارة أخرى لوحظ قربها الشديد منها عند خطّ المنتصف على الأوتوستراد، ما يطرح إمكان حدوث مطاردة أو ضغط وتّر ناتالي لتنحرف السيارة بزاوية كبيرة أفقدتها السيطرة. أمّا الثالث، فيرتبط بالتحدّث عن احتمال حدوث عطل في دعسة البنزين أو الفرامل التي كانت “معلّقة”، والرابع يحتمل أنْ تكون السيارة “التي قد تكون مستأجرة غير مهيأة ميكانيكياً للسرعة، مع العلم أنّ طرقنا باتت مشروع قتل لأبنائنا أساساً”.
وعن الطرق، يُؤكّد رئيس قسم العمارة في الجامعة اللبنانية المهندس وسيم ناغي، وجود مشكلات في تخطيط منعطفات ودرجة ميول الطرق “المتعثّرة” من الشمال إلى الجنوب، لتُشكّل خطورة كبيرة شمالاً، خصوصاً من طريق القلمون مروراً بجسر البالما وصولاً إلى عكّار. ويقول لـ “لبنان الكبير”: “شروط السلامة على الشريط الساحلي غير مطابقة لأدنى المواصفات لأسباب عدّة: الحفر الكثيرة، مشكلة ميول الزفت على المنعطفات بسبب عدم تطبيق المقاولين للشروط، غياب التخطيط ما لا يُوضح المسارات والمفارق، انتشار الشاحنات والفانات التي تطير بسرعة جنونية كأنّها توابيت طائرة، مع غياب رادارات السرعة وعدم تطبيق قانون السير، عدم استخدام حزام الأمان ما يُؤدّي إلى طيران السائق من زجاج سيارته أحياناً، غياب الإنارة الليلية وعواكس الاضاءة كما التنبيهات المهمّة لتدلّ النّاس على الصيانة في شكّا مثلاً، مع غياب الإضاءة والعواكس عن بعض السيارات والشاحنات، غياب تخطيط الطرق والمسالك البيضاء المساعِدة حتّى بغياب الإنارة مع أنّ كلفتها زهيدة، انتشار الأكشاك التي وُضعت بطرق خاطئة وغير مرخصة، غياب فحص الميكانيك منذ 5 أعوام، غياب دور وزارة الأشغال منذ أكثر من 7 أعوام عن الصيانة، غياب الرقابة والمحاسبة، عدم تحقيق العقارات المؤمّنة عبر تدشين طريق الخدمة ضمن الأوتوستراد التي تُؤمّن طرقاً آمنة لدخول السيارات وخروجها منها، تماماً كمحطات الوقود التي تضع مدخلاً سلساً يُطبّق اندماجاً مع الطريق السريعة لحماية النّاس، وأخيراً الثقافة التي تُرافقها عوامل مشتّتة مثل الاعلانات على الطرق، والهواتف”.
وعن جسر البالما، يُشير ناغي إلى عدم مطابقته للشروط التنفيذية بسبب درجة الميول التي عليها أنْ تكون عند المركز للتوازن، فيما تغيب الصيانة عنه خاصّة عند تواصل الجسور، حيث توضع فواصل حديدية لا بدّ من صيانتها دوريًا لأنها تُؤدّي إلى ثقب الإطارات بسبب القطع الحديدية “المسنّنة” والبراغي، فيفقد المواطن قدرته في السيطرة على سيارته”.
وفي حديثٍ عن مبادرات بعض الجمعيات لإصلاح الطرقات شمالًا، يُؤكّد “أنّ مبادرات القطاع الخاصّ، جمعيات المجتمع المدني، والتمويل من جهات خارجية ممتازة لكنّها لا تحلّ المشاكل جذريًا بل تُخفّف منها”.