غزة: عقود لردم فجوة الحرب وتحقيق التعافي الاقتصادي

سوليكا علاء الدين

بعد مرور نحو أربعة أشهر، تزداد الأزمة الانسانية والاقتصادية الاجتماعية في غزة سوءاً، مع تواصل إصدار البيانات والتقارير المحذرة من أن ما هو قادم أسوأ على مختلف القطاعات والأصعدة. وفي أحدث تقاريره الصادرة، أطلق مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)صرخة تحذير مدوية، أشار فيها إلى أن إعادة غزة إلى ما كانت عليه قبل بدء العملية العسكرية الأخيرة في تشرين الأول 2023 سوف يتطلب عقوداً من الزمن. وحثّ التقرير على ضرورة التحرك العاجل لكسر دائرة التدمير الاقتصادي التي فرضها الحصار على القطاع على مدار سنوات جعلت 80 في المئة من السكان يعتمدون على المساعدات الدولية، ما يشكل خطراً حقيقياً على الاستقرار الهش.

التقرير الصادر عن الوكالة الأممية المعنية بالتجارة والتنمية سلّط الضوء على الواقع الكارثي الذي تعيشه غزة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي وعلى حجم الخسائر الفادحة في الناتج المحلي الاجمالي، واضعاً خريطة طريق للتعافي من خلال تحديد الجداول الزمنية المُتوقعة. وقدّم التقرير أيضاً تحليلاً للآثار طويلة الأمد على الفقر وإنفاق الأسر المعيشية، راسماً صورة قاتمة لتحديات التنمية التي ستواجه سكان غزة والمجتمع الدولي في المستقبل.

حصار خانق

منذ مطلع التسعينيات، يرزح الشعب الفلسطيني في غزة تحت وطأة قيود صارمة على حركته وتجارته. تفاقمت هذه القيود بصورة ملحوظة بعد عام 2007، وباتت تُشكل عبئاً ثقيلاً على حياة السكان. ومنذ العام 2008 وحتى اليوم، تعرّض القطاع لعدد من العمليات العسكرية الاسرائيلية التي تسببّت في نزوح داخلي واسع النطاق، وضرر كبير في الأعمال التجارية والزراعية، بالاضافة إلى دمار متكرر للبنية التحتية المادية، بما في ذلك المباني السكنية والمرافق التعليمية ومراكز الرعاية الصحية، إذ ترك العديد من الأضرار من دون اتخاذ خطوات جادة للاصلاح.

ففي العام 2024، كانت مستويات المعيشة في غزة تقارب تلك الموجودة في الضفة الغربية. وبحلول العام 2007، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في غزة إلى 44 في المئة فقط من نظيره في الضفة الغربية. واستمر هذا التراجع ليصل إلى 28 في المئة في العام 2022، ما يعكس التأثير المدمر للحصار على الاقتصاد في غزة.

وشهد القطاع خلال الفترة بين 2006 و2022 انكماشاً هائلاً في نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي، بحيث انخفض من 1,994 دولاراً إلى 1,257 دولاراً، أي بنسبة 27 في المئة. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، أدت العملية العسكرية في العام 2014 إلى إضعاف 85 في المئة من رأس المال الذي نجا من العمليات العسكرية السابقة. وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، استبعدت غزة إلى حد كبير من أجندة التنمية الدولية، وتم تحويلها إلى منطقة كوارث إنسانية، حيث يعتمد أكثر من ثلثي سكانها على المساعدات الدولية لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

رحلة شاقة

أظهرت صور الأقمار الصناعية والبيانات الرسمية المُستخدمة حجم الكارثة الاقتصادية التي تعصف بقطاع غزة. ففي الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2023، أشارت تقديرات “الأونكتاد” إلى انكماش الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 4.5 في المئة. وجاءت العملية العسكرية لتُعجل في هذا الانكماش، بحيث تراجع الناتج المحلي الاجمالي على مدار العام بأكمله بمقدار 655 مليون دولار أي بنسبة 24 في المئة وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 26.1 في المئة.

وبحلول نهاية الربع الثالث من العام 2023، بلغت نسبة البطالة في غزة 45.1 في المئة. وأشارت تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن 61 في المئة من فرص العمل قد فقدت مقارنة بمستويات ما قبل النزاع، أي ما يعادل 182 ألف وظيفة. في حين وصلت نسبة البطالة في كانون الأول 2023، إلى نحو 79.3 في المئة. وفي الوقت نفسه، تضرر أو تدمر بصورة كلّية 37,379 مبنى، أي ما يعادل 18 في المئة من إجمالي المباني في غزة، جراء العملية العسكرية. فالقطاع، الذي يلامس فيه عدد الأطفال نصف عدد السكان، أصبح الآن غير صالح للسكن، بحيث يعاني المواطنون من نقصٍ حادٍ في مصادر الدخل، ويفتقرون إلى الماء الصالح للشرب، والصرف الصحي، وخدمات الصحة والتعليم.

ويعتمد إمكان التعافي وسرعته في غزة على تاريخ انتهاء العملية العسكرية وأداء النمو اللاحق – وكلاهما لا يزال مجهولاً، وفق التقرير. ومع افتراض سيناريو متفائل يتمثل في انتهاء العملية العسكرية على الفور، وبدء إعادة الاعمار الفوري، من المتوقع أن يشهد الناتج المحلي الاجمالي نمواً استثنائياً بمعدل 10 في المئة سنوياً في المتوسط متزامناً مع نمو سكاني قدره 2.8 في المئة. مع ذلك، تشير التوقعات إلى أن اقتصاد غزة لن يتمكن من استعادة مستويات الناتج المحلي الاجمالي التي حققها عام 2022 قبل العام 2092، مع استمرار تدهور نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي والظروف الاجتماعية والاقتصادية. وبناءً على ذلك، يُتوقع أن يعود نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في غزة إلى مستواه في العام 2022 بحلول العام 2028، أي بعد ست سنوات فقط من بدء إعادة الإعمار. على أن يصل إلى مستويات عام 2006 بحلول العام 2035، بينما قد يستغرق الأمر حتى العام 2037 للعودة إلى مستويات عام 1994.

وأضاف التقرير أن رحلة إعادة غزة إلى مستوى الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتردية التي كانت سائدة قبل اندلاع المواجهة الأخيرة قد يستغرق عقوداً من الزمن، ويتطلب برنامج إنعاش شاملاً ممولاً ومدعوماً بالكامل من المجتمع الدولي.

كسر الحلقة المفرغة

التقرير الذي أعدته “الأونكتاد” قدّم مجموعة من الملاحظات الختامية والتوصيات الهادفة، فأكّد أنّ غزة إذا كان لها أن تعود إلى اقتصاد قابل للحياة، فلا بد من إنهاء المواجهة العسكرية على الفور. إذ لا يمكن للمرحلة الجديدة من إعادة التأهيل الاقتصادي المبنية على بناء السلام أن تكتفي بالعودة إلى ما قبل تشرين الأول 2023، بل يجب أن تُبنى على رؤية مستقبلية تُنهي الصراع العسكري وترفع الحصار المفروض على غزة بصورة كاملة من أجل البدء بعملية إعادة الاعمار والتعافي ووضع غزة مرة أخرى على مسار التنمية المستدامة. فتحفيز التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل اللائقة في غزة ضروري لاستعادة الكرامة وضمان حياة كريمة، وإنهاء عقود من الاعتماد القسري على المساعدات الانسانية.

لذلك، يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن قبل فوات الأوان وأن يبادر إلى عقد مؤتمر دولي للتعافي وإعادة الاعمار، يمكّن المانحين من تقديم التزامات وتعهدات ذات مصداقية للمساهمة في صندوق لاعادة إعمار غزة، وتوفير تمويل فوري للإغاثة الانسانية. وعلى الرغم من صعوبة تحديد حجم المساعدات الخارجية اللازمة لاعادة غزة إلى مستوى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة قبل اندلاع المواجهة الحالية، ناهيك عن الحد الأدنى من الحياة الطبيعية المتسقة مع تحقيق الطموحات التنموية الأوسع المنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة في الوقت الحالي، الا أنّ ذلك لا يعوق تجاوز المساعدات عشرات المليارات من الدولارات حسب بعض التقديرات. وعلى الجهات المانحة والمجتمع الدولي أن يدركوا أن القيود المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني عموماً، وغزة خصوصاً، ليست مجرد نتائج للمواجهة الأخيرة، بل هي متجذرة في احتلال طويل الأمد دام 56 عاماً.

وشدّد التقرير أيضاً على الحاجة الملحة الى دعم فوري وقوي لموازنة الحكومة الفلسطينية. ومن شأن هذا الدعم أن يساعد في منع توسيع الانهيار من خلال الحفاظ على الحوكمة الرشيدة، وتقديم الخدمات العامة الأساسية، والحفاظ على الطلب الاجمالي من خلال دفع الرواتب وتسوية المتأخرات المستحقة للقطاع الخاص، بحيث انخفضت المساعدات الخارجية من إجمالي ملياري دولار، أو 27 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، في العام 2008، إلى 550 مليون دولار، أو أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، في العام 2022.

كما أوصى بضرورة بذل المزيد من الجهود لتحقيق إعادة توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية؛ سياسياً، وإدارياً، ومالياً، واقتصادياً، واجتماعياً في إطار حكومة وطنية واحدة، داعياً المجتمع الدولي إلى لعب دور رئيس في تسهيل عملية إعادة التوحيد التي طال انتظارها، وذلك من خلال توفير الدعم السياسي والتقني والمالي المستدام. إذ لا يمكن أن تكون الحلول المجزأة، وغير المستقرة بديلاً من رفع الحصار الكامل والنهائي عن غزة من أجل السماح لها بالتعافي اقتصادياً، والعمل بحرية، والتجارة من ون عوائق مع الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وبقية العالم.

وفي الختام، حضّ التقرير على ضرورة كسر الحلقة المفرغة من التدمير وإعادة الاعمار الجزئي من خلال التفاوض على حلٍ سلميٍ شاملٍ، يُبنى على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة.

شارك المقال