ازدياد المعروض النقدي: خطوة نحو الاستقرار أم مخاطرة تضخمية؟

هدى علاء الدين

يشهد لبنان، المثقل بالأزمات الاقتصادية، ظاهرة فريدة تتمثل في ازدياد المعروض النقدي بصورة هائلة. فقد قفز مؤشر M4، الذي يقيس حجم النقود المتداولة والحسابات المصرفية، بنسبة كبيرة بلغت 439 في المئة في شهر كانون الثاني 2024، مقارنةً بارتفاع طفيف نسبته 0.1 في المئة فقط في كانون الأول 2023، وذلك بحسب بيانات مصرف لبنان.

ويُعزى هذا الارتفاع المفاجئ إلى قرار توحيد أسعار الصرف المختلفة عند سعر موحد يقترب أكثر من سعر السوق، كما أفاد تقرير صادر عن وكالة “بلومبيرغ”.

ومع الأخذ في الاعتبار التأثير التضخمي المحتمل لتوسيع السياسة النقدية، يُنظر إلى هذه المبادرة كخطوة أولية ضرورية لتخفيف حدة الاضطرابات الاقتصادية العميقة التي يعاني منها لبنان. وقد سمحت هذه الخطوة للحكومة بتعديل سعر الصرف الرسمي لليرة إلى رقم أكثر واقعية، ممهدة الطريق للحصول على قرض حاسم بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.

وبحلول منتصف شهر شباط، تم ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي عند 89,500 ليرة للدولار، وهو ما يمثل تحولاً كبيراً عن السعر الرسمي السابق البالغ 15,000 ليرة.

لكن هذه الزيادة تثير مخاوف وتساؤلات حول مزاياها ومخاطرها على الاقتصاد اللبناني، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها البلاد.

فما هي أبرز مزايا زيادة المعروض النقدي ومخاطرها؟

مزايا زيادة المعروض النقدي

  • دعم السيولة في القطاع المالي: يساعد ضخ المزيد من النقود في الأسواق على تسهيل المعاملات التجارية ودعم الشركات المتعثرة، ما قد يُساهم في إعادة تحريك عجلة الاقتصاد.
  • خفض عبء الدين: مع انخفاض قيمة العملة، تنخفض قيمة الدين بالليرة اللبنانية، ما يخفف من عبء الدين على الأفراد والشركات والحكومة.
  • دعم الاستهلاك: قد تحفز زيادة النقود المتاحة في السوق الاستهلاك، الأمر الذي يُنعش بعض القطاعات الاقتصادية مثل التجارة والخدمات.

مخاطر زيادة المعروض النقدي

  • التضخم: يعد الخطر الأكبر المرتبط بزيادة المعروض النقدي. فمع وجود كمية أكبر من النقود مع ثبات كمية السلع والخدمات، ترتفع الأسعار بصورة كبيرة، ما يفقد العملة قوتها الشرائية ويؤدي إلى تدهور القدرة المعيشية للأفراد.
  • فقدان الثقة بالعملة: تؤدي زيادة المعروض النقدي بصورة كبيرة إلى فقدان الثقة بالليرة اللبنانية، ما قد يُشجع على التحول إلى العملات الأجنبية، ويفاقم من انهيار العملة الوطنية.
  • عدم استدامة النمو: تساهم زيادة المعروض النقدي في تحقيق نمو اقتصادي مؤقت، لكنه سرعان ما ينهار إذا لم تتخذ خطوات إصلاحية هيكلية لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة.
  • تأخير إصلاحات المالية العامة: قد تؤدي زيادة المعروض النقدي إلى تأخير إصلاحات المالية العامة، وهو ما يعوق عملية التعافي الاقتصادي على المدى الطويل.
  • إغفال الحاجة إلى الاصلاحات الهيكلية: تشجع بيئة أسعار الفائدة المنخفضة على الاستهلاك على حساب الاستثمار، ما يعوق عملية التنمية الاقتصادية المستدامة.

زيادة احتياطيات العملات الصعبة

على صعيد مواز، شهد مصرف لبنان في نهاية الشهر الأول من العام الجاري ازدياداً ملحوظاً في احتياطيات العملات الصعبة، بحيث بلغت 800 مليون دولار. ويُعزى هذا الارتفاع إلى تلبية احتياجات القطاع المالي المحلي لليرة اللبنانية، ضمن استراتيجية المصرف المركزي للحفاظ على الاستقرار النقدي، وذلك بتثبيت سعر الصرف الرسمي عند 89.5 ألف ليرة للدولار. ونتيجة لهذه الزيادة، ارتفع إجمالي احتياطيات العملات الصعبة إلى 9.6 مليارات دولار، متجاوزاً عتبة الـ10 مليارات دولار مجدداً.

مخاطر التأخير في الاصلاحات المالية

حذّر مصرف لبنان من استمرار التأخير في إنجاز القوانين الاصلاحية في البلاد، معتبراً ذلك تهديداً للمكانة المالية للدولة، والمصرف المركزي، والمصارف، وحقوق المودعين. وأكد ضرورة الاسراع في وضع خطة واقعية لإعادة هيكلة النظام المصرفي والمالي وإصلاحه، وإقرار القوانين الخاصة بهما، والبدء بالتفاوض مع الدائنين.

كما أعلن عن استعداده التام للقيام بكل ما يلزم لإتمام عملية الإصلاح، مشدداً على أهمية فتح ملفات الدعم التي تم تقديمها خلال الفترة الماضية، وإخضاعها للتدقيق الجنائي الخارجي، لمنع مرور الزمن على أي جرائم قد تكون قد ارتكبت.

خطوات إصلاحية تتجاوز السياسة النقدية

صحيح أن زيادة المعروض النقدي قد تُساهم في تخفيف حدة بعض أعراض الأزمة المالية في لبنان مثل تحفيز النمو الاقتصادي على المدى القصير من خلال زيادة الإنفاق والاستثمار، إلا أن نجاح هذه السياسة يعتمد بصورة كبيرة على قدرة السلطة اللبنانية على اتخاذ خطوات إصلاحية هيكلية تُعالج الأسباب الجذرية للأزمة. وتشمل هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:

  • العجز المالي: يعد خفض العجز المالي أولوية قصوى لضمان استدامة المالية العامة ومنع تراكم المزيد من الديون. ويتطلب ذلك إجراءات مثل زيادة الايرادات الحكومية من خلال توسيع قاعدة الضرائب وتحسين كفاءة التحصيل، وخفض النفقات غير الضرورية.
  • الفساد المستشري: يعوق الفساد وغياب الشفافية والحوكمة والمساءلة جهود النهوض الاقتصادي.
  • هيكلة القطاع المصرفي: تعد أداة مهمة لتعزيز الاستقرار المالي من خلال تحسين متانة رأس المال، وتعزيز الحوكمة، وتنويع القروض، وتحسين ممارسات إدارة المخاطر.
  • بيئة الأعمال الضعيفة: تُعاني بيئة الأعمال في لبنان من العديد من التحديات، مثل نقص البنى التحتية، وتعقيد الاجراءات البيروقراطية، وفقدان الثقة التي تعد عاملاً ضرورياً لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وخلق فرص عمل جديدة.

ومن دون هذه الاصلاحات، فإن زيادة المعروض النقدي قد تصبح مجرد إبرة مسكن لآلام الأزمة على المدى القصير وهو ما قد يؤدي إلى تفاقمها على المدى الطويل، وعليه يبقى اتخاذ خطوات إصلاحية جريئة وشاملة هو السبيل الوحيد لكسر حلقة الأزمة وتحقيق انتعاش اقتصادي مستدام.

شارك المقال