نجاح سلام الصوت البيروتي الذي صدح في دنيا العرب (1/2)

زياد سامي عيتاني

رحلت بالأمس نجاح سلام أيقونة بيروت الفنية التي صدح صوتها في سماء العروبة، فنانة إرتبط اسمها بالغناء الرشيق والطرب المحبب والأداء الفني الراقي والسلوك الأخلاقي المحافظ. فنجاح سلام ولدت ونشأت في بيت فني عريق كونها إبنة الموسيقي وعازف العود محيي الدين سلام الذي كان بالنسبة اليها الأب والأستاذ والموجه الفني، بعدما كان ممانعاً بشدة دخولها المعترك الفني، لأن إمتهان الفتيات الفن آنذاك يتعارض مع التقاليد الاجتماعية، خصوصاً وأن جدها كان عالماً دينياً. كيف لا؟ وهي بيروتية حتى الصميم، حفيدة عالم وعلامة ديني مشهود له بعلمه وورعه وتقاه، وقريبة رئيس الحكومة صائب سلام، ولدت في محلة الطريق الجديدة لما كانت عبارة عن فسحة واسعة من الرمول وأشجار “الصبير”، ومنازلها معدودة، ثم ترعرعت في منطقة البسطة (قلب بيروت النابض بالوطنية والعروبة والشهامة)، فآكتسبت حتى الرسوخ المزاج البيروتي بكل منظومته الاجتماعية والثقافية والشعبية، الذي كان كفيلاً بأن يرسم ملامح شخصيتها، ومن ثم هويتها الفنية.

من تلاوة القرآن إلى الترتيل: ما بين العام 1940 – 1941، إكتشف والدها جمال صوتها في تلك الفترة المبكرة، حين كانت في مدرسة الحاج سعد الدين الحوري الملاصقة لبيتها، حيث كانت تقرأ القرآن في “طابور” الصباح، وكان الملعب يطل على غرفة نوم والدها، ومنذ ذلك الوقت أدخلها إلى مدرسة “زهرة الاحسان” وهي مدرسة راهبات داخلية ليقطع الطريق عليها، كون المدرسة شديدة، فيها قسوة، فكانت مسألة محزنة بالنسبة اليها. في اليوم الأول من إلتحاقها بمدرستها الجديدة كانت مكتئبة، لكن في اليوم الثاني زال الاكتئاب، حينما سمعت رخامة صوت الراهبة ماري، المسؤولة عن تدريب الكورس في الكنيسة، ففرحت جداً وقالت لها إن صوتها حلو وانها راغبة في الاشتراك في الكورس في الكنيسة. إعترضت الراهبة ماري على أساس أنها مسلمة (!) فأجابتها بشجاعة المؤدبة وهي في التاسعة من عمرها: “عيب، الذي أعرفه أن المطران مبارك كان يزور جدي الشيخ عبد الرحمن وله صور كثيرة تجمعهما”. وهكذا بدأت صباح كل يوم ترتل مع مجموعة الكورس، فوجدت في ذلك متنفّساً لها.

أول حفلة في الجامعة الأميركية: بعد ذلك أصبحت تغني في الحفلات المدرسية نهاية كل عام، بحيث صاروا يستدعونها من مدرسة إلى أخرى. في العام 1942، كان أول حفل لها في “جونيور كوليدج” في الجامعة الأميركية، في قاعة “الوست هول”، حضرها الرئيس صائب سلام والزعيم أنطون سعادة. في ذلك الحفل، كان “شامل ومرعي” يعرضان مسرحية “خدعوك” وطلبا منها الغناء في وسط العرض، وكانت يومها لا تزال في “زهرة الاحسان”، فغنت “أسقنيها” لأسمهان، و”يا أم العباية”، لم تصدق حين سمعت التصفيق الكثير، فصارت تنظر حولها ووراءها وتتساءل بينها وبين نفسها إن كانوا يصفقون لها أو لغيرها، على الرغم من أنها كانت مدركة في قرارة نفسها تماماً لمعدن صوتها ولأذنها الموسيقية. وفي تلك الأمسية إلتفت أسعادة إلى الرئيس سلام وقال له: “يا صائب بيك، ما بيكفيكن السياسة، كمان الفن بدكن تاخدوه؟”.

عبد الوهاب يقنع والدها: إصطحب مصباح سلام شقيق الرئيس صائب سلام نجاح ووالدها للقاء محمد عبد الوهاب، الذي كان موجوداً في لبنان، فسألها: “تحبي تغني؟”، فأجابته على الفور بالايجاب. فطلب منها أن تسمعه ما تحفظه من الأغاني، فغنت على مسمعه عدداً من أغنياته التي أداها في فيلمه الذي كان يعرض له “لست ملاكاً”، وكان بين كل أغنية وأغنية يقول: “الله الله”، وإمتدت يومها السهرة، وفي نهايتها قال عبد الوهاب لوالد نجاح: “شوف يا محيي الدين، كل مائة سنة لما يطلع فنان له شخصية بصوته. إنت بتكون مجرم إذا حجرت على البنت”. لكن والدها قال له: “الظروف لا تسمح فالوالد شيخ وعالِم معروف”. فجاوبه عبد الوهاب: “يا سيدي العلماء كثر، لكن الفنانين الصادقين قلة”.

اللقاء مع أم كلثوم: وحين ذهبت إلى مصر توسلت إلى والدها أن يعرفها إلى أم كلثوم. كان عبده صالح عازف القانون، صديقاً حميماً لوالدها، فحدّد لهما موعداً وذهبا لمقابلة الست في منزلها. بعد أن إستقبلتهما قالت لوالدها: “أنا أتذكرك يا أستاذ، أنت الذي ألقيت قصيدة قدمتني بها في الحفل في لبنان”. ثم قدم إبنته إليها وقال إنها معجبة بكِ جداً، سألته أم كلثوم: “صوتها كويس؟”، قال: “يعني” (!) فعقبت نجاح بعفوية وبراءة وسرعة: “والله صوتي حلو بس هو مش عاوز يقول”. فسألتها: “إيه الأغاني اللي تحبي تغنيها؟”، أجابتها: “أحب غناء كل الأغاني بتاعتِك”. فغنت أمامها “أهل الهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم” من ألحان زكريا أحمد، و”أراك عصي الدمع”، وفي كل مرة كانت أم كلثوم تردد: “الله الله يا سيدي، الله الله قولي”، ثم إلتفتَت إلى والدها وقالت له عبارة لا تنساها نجاح: “تعرف يا سي محيي، نجاح لها رأي بالغُنا. هي تغني أغنياتي لكنها ما بتقلدنيش، بتغني بطريقتها، وده شيئ جيد في الفنان”.

الرسوب في تصوير الفيلم الأول: ووصل خبر وجودها في مصر إلى عبد الوهاب وذهبت إلى بيته وفرح بقدومها مع والدها وعرض عليهما مشروع فيلم عنوانه “العيش والملح”. وهذا الفيلم سبب لنجاح “عقدة” من السينما في البداية، وذلك بسبب خجلها وتربيتها المحافظة. والقصة أن شركة “نحاس فيلم” كانت تبحث عن فتاة تقوم بدور البطولة، فأخبرها عبد الوهاب عن نجاح وتعهد بتلحين أغاني الفيلم، فقبلت إدارة الشركة من دون تردد باعتبار أن عبد الوهاب من يرشحها. وفي يوم الاختبار توجهت إلى إستديو “ناصيبيان”، وتمّ عمل الماكياج اللازم للبدء بتصوير المشاهد التجريبية، وأول مشهد سيصور هو أنها فتاة بنت بلد تحمل سلة مليئة بالبيض وماشية، فيصدمها سعد (عبد الوهاب) بدراجته، ومن غضبها، عليها أن تصرخ بلهجة بنت البلد المصرية، حينما يقول لها: “لا مؤاخذة يا بيضة”، فترد عليه غاضبة: “بيضة لما تنطش في حباب عنيك”. بعد أن قالتها تعجّب المخرج على أساس أنها فتاة صغيرة وآتية من لبنان قبل أيام فقط، ففرح وتأمل خيراً. لكن في اليوم الثاني كان المشهد هو الطامة الكبرى، فالموقف غرامي يتطلب منها أن تقول: “أحبك”. وفي كل مرة يقول لها سعد: “أحبكِ”، كانت تخجل وتعود إلى الوراء، من دون أن تتمكن من تمثيل المشهد! إلا أن مخرج الفيلم حسين فوزي تفهّم المسألة، وعرف أن التربية وجو البيت المحافظ، كانا السبب في خجلها، فنصح والدها بأن يعطيها فترة قبل أن تبدأ في السينما، تكتسب خلالها الخبرة في التعاطي مع المسرح والجمهور والمعجبين وغير ذلك، ومن ثم تأتي مرحلة التمثيل. وبذلك تكون قد رسبت في الامتحان التمثيلي الأول، لتنصرف بعدها الى الغناء لكي تنضج شخصيتها الفنية وتكتسب الخبرة التمثيلية.

العودة إلى بيروت: عادت بعد ذلك إلى بيروت ينتابها شعور بالزعل والإحباط بسبب هذا الدور الذي حرمها إنطلاقتها السينمائية الأولى، إلا أن والدتها إبتسمت في وجهها وهي تتلمس مشاعرها الحزينة، قائلة لها: “سيأتي يوم يقبّل المخرج يديك لتعملي معه”.

إذاً، على الرغم من فشل تجربة الدخول في عالم السينما، إلا أن نجاح في تلك الفترة القصيرة رأت الفنانين الذين كانت تحلم بلقائهم، وتعلمت أن الانسان لا تكفيه فطرته وموهبته، بل عليه أن يتعلم ويسعى حتى يستطيع إغتنام الفرصة على أحسن وجه، كما إقتنعت بأن هدفها الأساس ليس السينما أو إستديوهات التصوير والأضواء والعمالقة، بل يجب أن ينصب اهتمامها على المسرحِ والغناء على خشبته، وسماع تصفيق الجمهور، وعبارات الطرب والاستحسان والتشجيع.

يتبع: إنطلاقتها الغنائية

شارك المقال