نجاح سلام… الصوت البيروتي الذي صدح في دنيا العرب (٢/٢)

زياد سامي عيتاني

عندما قال محمد عبد الوهاب لنجاح سلام في لبنان حينما تعرف اليها للمرة الأولى بعدما سمع صوتها: “وعد مني يا نجاح عندما تنزلين مصر، أول لحن سيكون مني”. هذا ما جعل والدها يقتنع أكثر بأن إبنته تملك شيئاً ما، الأمر جعله يهيئها للغناء من خلال تَعلُّم مخارج الحروف وحسن اللفظ والوقوف على المسرح، كما علّمها المقامات والعزف على العود، وكيفية الانتقال من مقام إلى آخر، إضافة إلى الموال. وبعدها قال لها: “يمكن الآن أن أعرّفك على الملحنين”.

“حول يا غنام”: أول أغنية من الحلاق إيليا المتني الذي كان أول شخص يدخل بيت محيي الدين سلام وإبنته نجاح، وهو ملحن مجهول الهوية. عرض على والدها أن يسمعه لحناً، وفي حال أعجبه، يمكن أن تغنيه نجاح. في الواقع إيليا المتني، كان يسكن في الحي نفسه حيث منزل العائلة في البسطة، ويعمل كحلاق، إذ ان كل حلاق من حلاقي أيام زمان، كان يملك آلة موسيقية في محله ويعزف عليها، من قبيل الهواية. فأسمع المتني محيي الدين لحن “حوّل يا غنام”، وأُعجب به كثيراً، وفي العام ١٩٤٨ كانت إنطلاقة هذه الأغنية من الاذاعة اللبنانية، ثم تحولت إلى أسطوانة، ولأن الأسطوانة وجهان، سجّلت على الوجه الثاني أغنية “يا جارحة قلبي” للراحل فيلمون وهبي.

الانطلاقة والشهرة: بعد أغنية “حوّل يا غنام” التي لاقت نجاحاً كبيراً، وجعلت نجاح سلام تكتسب شهرة واسعة، تبعها العديد من الأغنيات التي كانت تنجح الواحدة تلو الأخرى، مثل: “يا عربجي خفف سيرك”، “ع الوادي ياالله ع الوادي”، “على مسرحِك يا دنيا” لنقولا المنّي الذي لقبوه بسنباطي لبنان. ثم من ألحان الصيداوي غنت “ع نار قلبي ناطرة” و”وينك يا ليلى”، ومن ألحان فليمون وهبي “حملتني فوق الألم ألم البعاد” و”القطر جه وحبيبي ما جاش”.. ومن الملاحظ أن الملحنين في ذلك الوقت كانوا يطبعون ألحانهم بالنَفَس المصري لإثبات قدراتهم التلحينية أمام الأعمال المصرية.

الإنتشار عربياً: هذه الألحان التي غنتها نجاح قوبلت بنجاح واسع في لبنان، كما أن شهرتها وصلت إلى مختلف أنحاء الوطن العربي، فتلقت عقداً من الاذاعة السورية، للغناء في سوريا، ففرح والدها كثيراً، ما جعله تباعاً يوافق من دون أي تردد على العقود التي كانت تتلقاها من العراق وسوريا وفلسطين، وبقيت تتنقل بين هذه الدول قرابة عشر سنوات قبل أن تعود إلى لبنان. في إحدى الأسفار إنتقلت من الأردن في طريقها إلى بغداد براً بالباص، كانت الطريق طويلة، وفيما هي نائمة، أفاقت على صوت والدها يقول لها: “إنزلي لنشرب الشاي في أحد المقاهي”، وعندما دخلت المقهى الذي يسمونه “جايخانة” أشار والدها بيده إلى أحد الجدران وقال لها: “أنظري”، فنظرت وإذ بصورتها معلقة على الحائط وكتب تحتها “المطربة الناشئة الآنسة نجاح سلام”. فقال والدها: “أرأيت؟ أنت موجودة في وسط الصحراء”.

الترحيب بشمعون رئيساً قبل الرئاسة: وفي إحدى المرات كانت نجاح تغني في مطعم “سَلكت” في بغداد، وجاء الرئيس الراحل كميل شمعون، ولم يكن وصل إلى سدة الرئاسة بعد، (لكن التحضير للأمر كان يجري) فغنت له “ليّا وليّا يا بنية، ياهل الله ردوا عليّ، اليوم الدنيي بتضوي، عنّا أحلى رئيس جمهورية”. وهذا الأمر أفرحه، إذ رحبت به رئيساً قبل الأوان وحيّاها على إلتفاتتها.

اللقاء بفريد الأطرش والعودة إلى مصر: في الخمسينيات بدأت نجاح سلام الغناء في بيروت على الهواء مباشرة في الاذاعة، التي كان أثيرها يغطي كل البلاد العربية، ما عدا مصر، لكن الأسطوانات كانت منتشرة. في العام 1951 كانت تغني في فندق “طانيوس” في عاليه، وسمع بها فريد الأطرش وحجز طاولة وجاء خصيصاً لسماعها بصحبة شقيقه فؤاد وسامية جمال وعزيز عثمان وليلى فوزي. فغنت له نجاح: “يا عواذل فلفلوا”، ما جعله يقف ويصفق طويلاً. ثم إلتقته مع والدها في الفندق وطلب منه مرافقتها الى مصر، فأخبره والدها أن نجاح لن تذهب الى مصر، يكفيها مرة واحدة. فعلق فريد: “لا لازم تروح مصر”. وبالفعل إنتقلت نجاح سلام بعد فترة من الزمن إلى مصر، فكان الاحتضان الذي سمح لها بالعمل في السينما والغناء لأهم ملحنيها آنذاك محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي فضلاً عن محمد الموجي وغيرهم، وبالتالي التحليق عالياً في سماء النجومية.

التمسك بالأغنية اللبنانية في مصر: في العام ١٩٥٢ توجهت نجاح سلام للمرة الثانية الى مصر، لكن هذه المرة محصنة بالعلم والتجربة والخبرة، بعدما نمت شخصيتها الفنية الذاتية والمستقلة، بحيث كان لها شرف وفخر أن تكون صاحبة الفضل في نشر الأغنية اللبنانية في مصر، لأنها أصرت على الغناء باللهجة اللبنانية، رغبة منها في تمثيل بلدها. لذلك، كان عليها في البداية أن تقدم هويتها الفنية ليستمتع المصريون بغناء الجملة الشعبية الجميلة التي تجعل كبار الملحنين المصريين يقولون: “الله”، بفضل أدائها الذي أوصل الأغنية بأمانة.

السنباطي نقطة تحول في مسيرتها الغنائية: بعد وصولها إلى مصر، تعرفت نجاح إلى الملحن الكبير رياض السنباطي فغيّر إتجاهها الفني بصورة جذرية. وقال لها: “هذه الأغنيات قليلة بالنسبة الى صوتك وموهبتك، صوتك فيه أكثر من هذا بكثير”. فلحن لها “النيل مقبرة للغزاة” في العام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، ثم لحن لها “عايز جواباتك”، “أمة الحق”، “يا ظالمي”، “الشهيد” وغيرها الكثير من الأغنيات الرائعة. يذكر أن السنباطي زعل مرةً من أم كلثوم، فقال لها: “عندي واحدة سأعطيها ألحاني بتغني زيّك وأحلى منك”، فأعطاها مجموعة كبيرة من الألحان من بينها “عايز جواباتك”، “يا ظالمي” وسواهما.

الغناء لكبار الملحنين العرب: صحيح أن نصيبها الأوفر كان من ألحان السنباطي، الا أنها غنت أيضاً من ألحان عبد الوهاب وخصوصاً في أول فيلم مثلته وعنوانه “سكة السعادة”. كما أن الموجي لحن لها “يا مالكاً قلبي”، وهي الأغنية نفسها التي غناها عبد الحليم حافظ، وكذلك “يا أغلى اسم في الوجود”، “ليه كل قلبي ما يصفى لك”، “ما احلى الغنا”، “يا أرض يا أم الخير يا طيبة”، إضافة إلى أغاني فيلم كامل. ومن ألحان سيد مكاوي غنت “الله يا ليل” و”يا مفرحة قلبي” و”آخر حلاوة”. بدوره بليغ حمدي لحن لنجاح خمسة ألحان. أما عبد العظيم محمد فلحن لها “بالسلامة يا حبيبي”، و”ياعايدة ياختي يا فلسطينية”، كذلك غنت من ألحان أحمد المحلاوي وفؤاد حلمي وغيرهم من الملحنين المصريين.

أما من الملحنين اللبنانيين فقد غنت لكثيرين، ومن بينهم: نقولا المني، شفيق أبو شقرا، حليم الرومي، إيليا المتني، عبد الغني شعبان، سامي الصيداوي وعفيف رضوان، الذي أحدث إنقلاباً في مصر، بحيث أن عبد الوهاب قال عنه: “إنه جملة جديدة في الموسيقى العربية”، كما غنت لحسن غندور. ومن سوريا غنت من لحن عدنان قريش وسهيل عرفة وشفيق شكري ونجيب السراج وغيرهم.

مطربة الوحدة والقومية العربية: صدحت أغاني نجاح سلام وأناشيدها الوطنية والحماسية في سماء الوطن العربي، حتى لقبت بمطربة القومية العربية، وشكلّت مع رفيقِ دربها وزوجها الفنان الشامِل محمّد سلمان ثنائياً فنياً ووطنياً مذ قدّم رائعته ” لبيّك يا علَم العروبة ” التي كانت حدثاً فنياً أثناء العدوان الثُلاثي على مصر، إلى الحدّ الذي دفع الرئيس جمال عبد الناصر الى الاشادة بالعمل وتوجيه الفنانين إلى المزيد من الأعمال الحماسية الشجيّة، والتي تُثير عاطفةً إيجابية. ثم توالت الأناشيد الوطنية على وقْع المعارك التي خاضتها مصر، وكانت حفلات “أضواء المدينة” تصطخب بالنجوم والأعمال الفنية التي ألهبت تلك الحقبة من تاريخ مصر والعرب، وشاركت فيها جميعاً نجاح سلام بحماسة وإيمان، فكان نشيدها الخالد الذي ترتجف له الأفئدة المُخلِصة المُتطلّعة إلى النصر “أنا النيل مقبرة للغزاة ” للشاعر الكبير محمود أحمد إسماعيل والعملاق رياض السنباطي، وقد غنتها من كل مكامن روحها وقلبها، بحيث خيل لسامعها أن جيشاً بأمّه وأبيه يجهد في الساعة والتوّ إلى الجهاد والنصر. قبل إستقلال الجزائر كانت نجاح سلام الصوت الأول الذي غنّى لبلد المليون شهيد “يا طير يا طاير خد البشاير من مصر وإجري على الجزاير”. في حرب تشرين دوّى نشيدها الخالد “سوريا يا حبيبتي” الذي أصبح النشيد القومي غير الرسمي لسوريا، من تأليف وتلحين محمّد سلمان الذي شاركها الغناء ومعه المطرب محمّد جمال.

عبد الناصر يهنئها ويشجعها على الزواج من سلمان: في عيد الثورة، وبحضور الرئيس جمال عبد الناصر، كانت نجاح تغني على المسرح، وتتبادل المواويل مع محمد سلمان. وعندما إنتهيا من الغناء، هنأهما الرئيس عبد الناصر وقال لوالدها: “دول لايقين لبعض”. هذه العبارة أثّرت في والدها وثبّتت علاقتهما ورسختها أكثر، لتتوج لاحقاً بالزواج.

نجاح سلام، التي غادرتنا بالأمس، ليست مجرّد مطربة كبيرة إنطبعت بنجاحات باهرة، لا يزال صدى صوتها يتردد حتى يومنا هذا، بل هي تاريخ فني قائم في حد ذاته، كتبت صفحاته المجيدة بحنجرتها الذهبية، وشكلت واحدةً من “منارات” الفنّ العربي الساطعة، بعد مسيرة فنية طويلة ومشرّفة من العطاء والاخلاص والرقي، حصدت خلالها نحو خمسة آلاف أغنية وعشرات الأفلام السينمائية، كلّها أسهمت في تكريس رياديتها وتمايزها في زمن العمالقة، التي إستحقت عن جدارة وإقتدار أن تكون واحدة منهم.

شارك المقال