50 عاماً على عملية “فردان”… كيف اغتالت اسرائيل القادة الفلسطينيين الثلاثة؟ (2/1)

زياد سامي عيتاني

في ليلة العاشر من نيسان عام 1973، تمكّنت وحدة من الكوماندوس الاسرائيلية من التسلّل إلى بيروت، يتقدّمها إيهود باراك (متخفياً بزيّ امرأة)، وتنفيذ عملية مزدوجة، الجانب الأول منها، أسفر عن اغتيال ثلاثة قادة بارزين من حركة “فتح” في منازلهم في منطقة فردان هم: كمال عدوان، كمال ناصر وأبو يوسف النجار (المعروفون بتخطيطهم لعمليات فدائية ضد الاحتلال الاسرائيلي). أمّا الجانب الثاني من العملية، فقد أسفر عن تفجير مقرٍّ لـ “الجبهة الشعبية” في منطقة الفاكهاني، بعدما اشتبكت الوحدة مع حراسه، ما أدى الى مقتل عسكريين إسرائيليين، واستشهاد 35 مقاتلاً من الجبهة.

أتت هذه العملية المشتركة بين “الموساد” والجيش الاسرائيلي، كردٍّ على العملية الفدائية النوعيّة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في “ميونيخ”، بعد سلسلة عمليات في عدد من البلدان الأجنبية، ضمن ما عرف وقتها بـ “حرب الأشباح”، التي بدأت في السبعينيات عبر القيام بعمليات فدائية ضدّ أهداف موجعة وحيوية للاحتلال، إلا أنّ عملية الطائرة الإسرائيلية في مطار “ميونيخ” عرضت رئيسة الحكومة غولدا مائير لانتقادات عنيفة، ما دفعها الى التوعّد أمام الكنيست باستهداف من شاركوا في عملية “ميونيخ”.

التخطيط للعملية:

سادت خلافات داخل القيادة السياسيّة والعسكريّة الاسرائيليّة حول تنفيذ عمليات اغتيال ضدّ مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية، في أعقاب اختطاف طائرات مدنية. لكن رئيسة الحكومة مائير، التي عارضت عمليات كهذه في دول أوروبية، أعطت الضوء الأخضر لها في أعقاب عملية “ميونيخ”، في أيلول العام 1973.

وكشف تقرير للصحافي المتخصص في قضايا الاستخبارات رونين برغمان، ونشر في صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن جوانب جديدة من الاستعدادات لعملية الاغتيالات الانتقامية هذه، وتنفيذها والمعلومات الاستخبارية التي جمعت حول أهداف العملية.

في البداية، جرى تكليف وحدة “قيسارية”، وهي شعبة العمليات في “الموساد”، بالاستعداد لتنفيذ عمليات اغتيال فلسطينيين في عواصم أوروبية. واقترح رئيس هذه الوحدة مايك هراري، تشكيل وحدة خاصة لتنفيذ هذه المهمات، وأطلق عليها وحدة “كيدون” (الرمح). وبسبب معارضة مائير لم تنفذ عمليات كهذه، لكن هراري أصدر تعليمات لـ”كيدون” بمواصلة التدرّب.

وبحسب برغمان، فإنّه في أعقاب عملية “ميونيخ”، وبعد إعطاء مائير ضوءاً أخضر لعملية اغتيال واسعة، تبين أن وحدة “كيدون” غير قادرة على تنفيذ عملية كهذه في بيروت، وأن قسماً من أفرادها لم يتدرّب أبداً على إطلاق النار أو لم يخدم في الجيش الاسرائيلي.

لذلك، جرى تكليف “سرية هيئة الأركان العامة” بتنفيذ عملية “ربيع الشباب”. لكن في تلك الأثناء لم تكن لدى الاسرائيليين معلومات كاملة حول أماكن تواجد القياديين الفلسطينيين.

حتى هذه المرحلة من التخطيط لم يكن هناك تعاون بين “الموساد” والجيش الاسرائيلي في عمليات إغتيال. ويعود ذلك إلى سياسة إسرائيلية، مفادها أنّ إسرائيل بإمكانها نفي إغتيالات ينفذها “الموساد”، لكن يصعب نفي عمليات ينفذها الجيش وترافقها ضجة كبيرة وتشارك فيها قوات. وعلى الرغم من هذه السياسة، تقرّر أن تنفذ قوة من الجيش الاسرائيلي العملية في قلب بيروت، وليس “الموساد”.

الفكرة الأولية التي طرحها رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، دافيد إلعزار، كانت تقضي بغزو البناية وإخراج السكان منها، ومن ثم التعرف على القادة الفلسطينيين الثلاثة وقتلهم، لكن مخططاً كهذا بدا خطيراً واعترض باراك عليه. واقترح خطة تقضي بأنه “بعد التأكد من أن الأهداف الثلاثة يتواجدون في بيوتهم، يجب أن يكون الدخول إلى المدينة، مع قوة صغيرة، ليس أكثر من 15 مقاتلاً، والوصول إلى الشقق، واقتحامها، وقتلهم، ثمّ الانسحاب، وكل هذا خلال بضع دقائق، قبل وصول قوات فلسطينية، عندما يدركون ما حدث، ستكون القوة المنفذة خارج البلاد، والأمر الأهم هو الحفاظ على عامل المفاجأة”. ونصّ القرار على اغتيال محمد النجار وكمال عدوان، ومن ثمّ أضيف كمال ناصر إلى القائمة كونه أصبح يحرج إسرائيل في زياراته إلى دول أوروبا، وقيامه بمجابهتها وتعريتها من خلال عدة لغات يتقنها كالفرنسية والانكليزية.

في تشرين الأول 1972 وصلت برقية إلى “شعبة الاستخبارات العسكرية/ أمان” من عميل لـ “الموساد”، وفيها عناوين سكن أربعة من قادة “منظمة التحرير”: خليل الوزير “أبو جهاد”، يوسف النجار، كمال عدوان وكمال ناصر.

وبدأت التحضيرات الفعلية للعملية بعد تدريب عميلة “الموساد” المشار اليها باسمها الأول ياعيل، وهي يهودية من أصول كندية. وأرسلت ياعيل، إلى بيروت في 14 كانون الثاني 1973، كصحافية جاءت لإنتاج مسلسل تلفزيوني عن البريطانية هيستر ستناب، الأرستقراطية التي تحدّت تقاليد المجتمع البريطاني، وعاشت كناشطة سياسية واجتماعية، وقضت فترات طويلة من عمرها في الشرق الأوسط.

وبدأت قوات إسرائيلية التدرّب، في بنايات قيد البناء وفي شاطئ البحر في شمال تل أبيب، على تنفيذ عملية اغتيالات واسعة في بيروت، وأُطلقت عليها تسمية “ربيع الشباب”، أو عملية “فردان”.

جاسوسة إسرائيلية رصدت المعلومات عن القادة:

في تشرين الأول العام 1972، وصلت رسالة مشفّرة إلى قاعدة عسكرية سريّة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، جاء فيها: “أطلب لقاءً عاجلاً”. ومرسل هذه الرسالة، هو أحد أهم العملاء لاسرائيل في الشرق الأوسط، وبدا من رسالته المقتضبة أن هناك معلومات مهمة بحوزته.

وتبيّن أنّه زوّد مشغليه الاسرائيليين بعنوان بيوت أربعة قياديين في “فتح”: النجار وعدوان وناصر، الذين كانوا يسكنون بجوار بعضهم البعض، إضافة إلى خليل الوزير “أبو جهاد” نائب رئيس حركة “فتح” ياسر عرفات.

وقال العميل إنّ القيادي الفلسطيني صلاح خلف “أبو إياد” كان يزور بيوت الثلاثة الأوائل. كذلك زوّد مشغليه بمعلومات كثيرة حول مواقع أخرى تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبينها ورش لصنع أسلحة، ومواقع قيادية ومكاتب.

بعد ذلك قرّر قادة وحدة “قيسارية” إرسال الجاسوسة ياعيل إلى بيروت، وكان إسم “الكود” لها “نيلسن”، ونزلت في فندق “البريستول”، وبعد أيام استأجرت شقة في بناية تقع مقابل البنايتين اللتين يسكنهما عدوان وناصر والنجار. وتعرّفت على أشخاص كثيرين، وتجوّلت بحريّة في منطقة سكنها، حاملة محفظتها وبداخلها كاميرا التقطت بواسطتها صوراً كثيرة وأرسلتها إلى “الموساد”، من بينها صور للشارع الذي تقع فيه البنايتان وشقق المسؤولين الفلسطينيين الثلاثة، وصورة لحارس عدوان.

كما جمعت ياعيل تفاصيل حول مركز الشرطة القريب، ويقع على بعد مئتي متر عن سكن القادة. ورصدت ثلاث شركات تأجير سيارات أميركية من أجل نقل عناصر القوة الاسرائيلية وعتادهم. وتعرّفت على أحد القادة، وشربت القهوة معه في بيته، قبل أيام من عملية الاغتيال. ونجحت في تجنيد عملاء ساعدوها في جمع المعلومات عن الشخصيات الثلاث، من دون أن يكتشفوا أنّها يهودية أو جاسوسة في “الموساد”.

ويذكر الكاتب رونين برغمان في كتابه عن عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في شارع فردان: “في بيروت، لم ينتبه أحد إلى تلك السيدة النحيفة، (يائيل)، التي أتت إلى مركز البريد في شارع مدام كوري في شارع الحمراء، لترسل إلى الضابط المسؤول عنها رسالة أظهرت الصدمة التي كانت تحت وقعها جراء ما شاهدته من نافذة شقتها. تقول الرسالة: (عزيزي إميل، ما زلت من الليلة الفائتة أرتجف، فجأة في منتصف الليل استيقظت على أصوات انفجارات قوية، فأصبت بنوبة ذعر. الاسرائيليون يهاجمون المنطقة. كان أمراً مرعباً. في الصباح، بدا كأن الأمر كان حلماً سيئاً، ولكن في الحقيقة لم يكن كذلك، لقد كان هؤلاء الاسرائيليون المرعبون بالفعل هنا. للمرة الأولى، صرت أرى لماذا يوجد هذا الكمّ من الكراهية لليهود في هذا البلد. فعلاً إن هذه المنطقة السكنية رائعة ومسالمة وسكانها طيبون)”.

إقرأ الجزء الثاني: 50 عاماً على عملية “فردان”… كيف اغتالت اسرائيل القادة الفلسطينيين الثلاثة؟ (2/2)

شارك المقال