إيران واستغلال التطبيع مع العرب لفتح “بازار” التسويات

عبدالوهاب بدرخان

أنظروا الى أوضاع سوريا والعراق واليمن لتعرفوا ماذا ينتظر لبنان. عودة نظام بشار الأسد الى الجامعة العربية واستمرار الأزمة في سوريا من دون أي حلٍّ في الأفق، علاقات التعاون بين العراق ودول عربية على خلفية هيمنة إيرانية ممأسسة، الهدنة الممدّدة والتفاوض السياسي المستعصي في اليمن بفعل التخصيب الإيراني للحوثيين، أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان معطوفة على أزمة اقتصادية ومالية واستحالة تلبية شروط “حزب إيران/ حزب الله” للتوصّل الى “تسوية”… كلّها ملفات متشابكة لا يمكن الداخل السوري أو العراقي أو اليمني أو اللبناني أن يحلّ فيها أو يربط إلا بإشارة من طهران. ومَن يعتقد أن ثمة مبالغة في ذلك فليثبتْ العكس.

في البلدان الأربعة تتحكّم إيران بالدولة أو بما بقي منها، وتتحكّم بأي مسار يمكن أن يضع أيّاً منها على طريق تعزيز الدولة وقواها المسلّحة وحيث لم تنجز افساد الجيوش وتفكيكها أمكنها أن تحيّدها أو تحشرها في أدوار تخدم ميليشياتها المعتمدة أو- في أسوأ الأحوال- تتعايش مع تلك الميليشيات بحذر وتشكيك، كما هي الحال في لبنان والعراق. أما في سوريا فبلغ الاختراق الإيراني للنظام وقواته حدّاً بات مكشوفاً لا يقتصر على افراغ أي محاولة عربية لتغيير سلوك النظام، أو على الاستحواذات في الأراضي والقطاع العام، أو على العمليات العسكرية، بل يشمل أنشطة انتاج المخدّرات وتهريبها، بالإضافة الى مخططات التغيير الديموغرافي. وأما في اليمن فجرى تذويب الدولة والجيش في بنية الميليشيا الحوثية، التي استطاعت أن تغيّر الكثير من الوقائع للحؤول دون عودة الحكم الشرعي، وأصبح مستقبل اليمن رهناً بـ “التنازلات” التي يواصل الحوثي انتزاعها ويطلب المزيد آملاً بالحصول على “شرعيةٍ” ما أو بفرضها.

في كلٍّ من البلدان الثلاثة اعتمدت إيران على قوى محلية عملت على تصنيعها أو تصديرها عملاً بعقيدة “تصدير الثورة”، لكنها تجاهلت الشعوب وقصَرَت تعاملها معها على الترهيب. وعلى الرغم من أن هذا النهج يزرع قنابل موقوتة في المجتمعات التي تفرض ارادتها عليها، إلا أنها تعوّل على الفوضى التي تنجم عن انفجارها لتبقى ميليشياتها مسيطرة في كل الأحوال. وبالنسبة الى لبنان يمكن القول ان “انتفاضة 17 تشرين” مثّلت ذلك الانفجار المتوقّع، وتمكّن “حزب إيران” من قمعها واحباط مفاعيلها السياسية، بل لم يتردّد في استخدام اجرامه لتشتيت صفوفها ومنعها من تفعيل التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وكلّ ذلك مكّنه من مصادرة السلطة القضائية. وما كان استحقاقاً وطنياً يتمثّل بانتخاب رئيس جديد في نظر اللبنانيين، قلبه “الحزب” الى فرصة لتغيير النظام فارضاً املاءاته على الداخل كما على القوى الخارجية.

وفي السياق وضعت إيران يدها على قضية فلسطين، مستغلّة من جهة تواني العرب عن التزام قضيتهم “المركزية”، ومن جهة أخرى نقض إسرائيل التزامات اتفاقات السلم. في المقابل استجابت إسرائيل لدخول إيران على الملف لتغذية الانقسام الفلسطيني. ولم يعد خافياً التقاء الدورَين الإسرائيلي والإيراني، كلٌّ وفق أجندته، في استثمار ذلك الانقسام واختبار نفوذهما، للتوصّل الى نتيجة واحدة في استباحة الدم الفلسطيني: فإسرائيل تشيطن حركتي “حماس” و”الجهاد” وتختبر أسلحتها في محاربتهما فيما تستخدمهما لإضعاف السلطة الفلسطينية وتبرير عمليات ضمّ الأراضي لقتل “حل الدولتين”. وإيران تشجّع بدورها على إضعاف السلطة وإعلاء شأن الحركتين اللتين تموّلهما في “مشروع مقاومة” يعزّز نفوذها الإقليمي من دون أن يضيف شيئاً الى المشروع الوطني الفلسطيني. وبمقدار ما تستفيد إسرائيل من هذا الدور الإيراني في توسيع رقعة التطبيع مع العرب، بمقدار ما تستفيد إيران من الدور الإسرائيلي في إضفاء مشروعية على “محور الممانعة” لكن هدفها الاستراتيجي هو الحصول على اعتراف أميركي – إسرائيلي بنفوذها.

حولّت إيران المنطقة الى “بازار” مفتوح للتسويات، وهي كانت انتظرت طويلاً صفقات أمر واقع بينها وبين الولايات المتحدة على غرار ما حصل في العراق، وانتظرت تسوية أميركية – روسية تشركها في تقرير مصير سوريا ولبنان، ثم انتظرت تعايشاً أميركياً مع الوضع الذي أنشأته في اليمن. لكن التطورات لم تسر في الاتجاه الذي توقّعته، فأميركا وضعت شروطاً للصفقة في سوريا (إبقاء الأسد في حل سياسي ينزع منه صلاحيات) لا تتناسب وطموحات طهران، كما تبنّت حلّاً لليمن لا يعترف بسلطة الحوثيين (أي إيران) ويُلزمهم بقبول شراكة تتناسب مع حجمهم إزاء الأطراف اليمنية الأخرى. ومع تأزم الوضع في لبنان أصبح التعامل معه خاضعاً للائحة شروط دولية يصعب تغييرها، وهذه بدورها لا تناسب إيران و”حزبها”. وسط هذا الانتظار وجدت طهران في غزو روسيا لأوكرانيا أفقاً جديداً كانت تنتظره، خصوصاً أنه بُني على مشروع لتغيير النظام الدولي تدعمه الصين، ومن الطبيعي أن تدعمه إيران لأن من شأنه أن يغطي تمدّد نفوذها ويحصّنه.

وهكذا أصبحت لـ “البازار” وجهة مختلفة، أو هكذا تظنّ إيران. والأكيد أنها تعتبر هيمنتها على العراق صارت محسومة ومضمونة، وبعد التطبيع مع الخليج لم تعد قلقة على وجودها في سوريا بل تواصل ترسيخه، ولا تبدو متعجّلة ولا جدّية في إنهاء النزاع اليمني بل تماطل اعتقاداً منها أن الوقت يعمل لمصلحة حوثيّيها. وفيما تطوّر إيران استراتيجية “وحدة الساحات” بالنسبة الى فلسطين فإن إسرائيل تستعد لملاقاتها في حرب “متعددة الجبهات”. بقي عليها أن تُحكم السيطرة على الملف اللبناني، فالاستحقاق الرئاسي بات ورقة ثمينة تسعى إيران الى بيعها لمن يمنحها مكاسب أكثر، موقنةً بأن سلاح “حزبها” وما حققه على الأرض يمنحانه اليد العليا على الدولة أيّاً تكن التسوية التي تُطرح عليه.

شارك المقال