الحزب… بمواجهة “المسيحيّ القويّ”!

علي نون
علي نون

لم يتأخّر الكلام المتوقّع والمُقال في الغرف المغلقة في الخروج إلى العلن اللبناني إزاء “قضية” سمير جعجع. فالبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي آثر العلن والإفصاح بعدما تبيّن له ولجميع خلق الله أنّ حزب إيران عندنا ذاهب في سلوكه إلى الأسوأ ومصرّ على استثمار واقعة الطيونة وفق رأيه وحسابه وقراءته وموقفه المعلن من التحقيق العدلي بانفجار المرفأ، والمحقّق شخصياً !

وليس الأداء المتّبع من الحزب إياه بغريب على الناس ولا يفاجئ أحداً في واقع الحال. لكن الغريب والمفاجئ هو أن يتابع اعتماده على الرغم من الأضرار المُحتملة عليه وعلى عموم اللبنانيين وعلى الـ”ستاتيكو” المريح له ولراعيته في طهران.

وذلك الاستنتاج أيضاً ليس جديداً… باعتبار أنّ الأداء المألوف ذاك يدلّ على أنّ أصحابه يضعون إطار الصورة بمرتبة الصورة عينها، أو الشكل بمرتبة المضمون وهذا بتفسير أوضح يعني أنّ ما يقوله الحزب الإيراني يجب أن يكون حُكماً مبرماً وواجب التنفيذ… والجدال في شأنه لا ينفع المتجادلين مثلما لا تهمّ الأكلاف المتوجّبة على ذلك التمنّع الجدالي. هكذا مثلاً، يقفل وسط بيروت على مدى أشهر طويلة لأنّ التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري يجب أن لا يعتمد أو يُقر من الحكومة… مثلما أنّ تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية على مدى زمن مرير يجب أن يستمر إلى أن يتم ما قرّره حزب إيران. وغير ذلك بين هذين الشأنين الكبيرين، أمثلة مشابهة كثيرة، منها معلن ومنها مضمر، وهي في جملتها خضعت لقانون التعطيل والاشتراط إياه!

تثبيت صورة صاحب البأس والسطوة والقوة بأهمية ممارسة تلك المثالب إزاء عموم الآخرين… فهو حزب لا يتراجع ولا يتواضع ولا يعتقد أنّ هؤلاء الأغيار يحق لهم ما يحق له! وللجدال أثمان يتحمّلها أكثر منهم! وحساباته بهذا المعنى لا تلحظ الوضع العام، لا خزينة الدولة ولا خزينة القطاع الخاص ولا التأثيرات التراكمية للموقف المذهبي في العلاقات المفترضة بين أقوام متعدّدي الطوائف والمذاهب! ولا مسار الدولة الواحدة بافتراض أنها خيار جامع لكل هؤلاء بمن فيهم صاحب السلاح عينه!

صورة المنتصر الدائم يجب ألا تخدش! والتراجع عن موقف سياسي تبعاً لأخذ هموم الغير وأوضاع البلد عموماً بالحسبان، أمر ليس وارداً، لأنه يُضعضع المسار التصاعدي ويصيب بالعور البنيان الذي يجب أن يترسّخ في الأذهان والوجدان قبل الشارع وتوازناته غير الحميدة! وهذا أداء ليس عبثياً، بل مدروس بدقّة وتأنٍ وبمنهجية حرفية، وهدفه الأخير والأثير هو تثبيت موقع قدم وبصمة يد لإيران ومشروعها وطموحاتها في أخفّ الاحتمالات، والسيطرة التامة على القرار الشرعي بعد الشارعي في أثقل تلك الاحتمالات!

وفي الحسبان منذ بداية المسار القميء ذاك، أنّ الاصطدام سيكون حتمياً بالآخرين المختلفين في الدين والمذهب والهوية السياسية، لكن لا بأس أبداً بذلك طالما أنه سيؤتي الثمار المطلوبة وسيرسّخ التمكن المطلوب وسيضيف ورقة أخرى إلى أوراق النفوذ التي يحتاجها مشروع الامبراطورية المستعادة في منطقة العرب والمسلمين. بل الظنّ الأصحّ هو أنّ تلك الخصومات والعداوات المتوقّعة مع الأغيار، مطلوبة حُكماً وشرعاً وبداية ونهاية، لأن من دونها لا تتجوهر الحيثية المذهبية الانقسامية الموجبة لادّعاء الدور وتقديم العون في الكيانات المستهدفة. في لبنان تحت ستار وشعار المقاومة، وفي اليمن تحت ستار وشعار رد العدوان، وفي سوريا تحت ستار وشعار صد المؤامرة الكونية على نظام آل الاسد، وفي العراق تحت ستار وشعار مواجهة الاحتلال الأميركي، وفي أفغانستان اليوم تحت ستار وشعار تثبيت الاستقرار عند الحدود الشرقية ومحاربة الإرهاب الداعشي المنتعش مجدداً بعد الاندحار الأميركي! المهم أنّ هناك دائماً غلافاً برّانياً عاماً لمضمون إيراني ذاتي مذهبي وقومي في خلاصاته!

واجه ذلك المسار في لبنان تعقيدات التنوّع أكثر من الأماكن الأخرى. اصطدم بالسنّة بعد اغتيال الرئيس الحريري، وبهم وبالدروز في أيار 2008 في بيروت والجبل، وبهم مجتمعين ومعهم غالبية مسيحية وجزء من الشيعة في كل المرحلة التي تلت جريمة 14 شباط 2005. وفي كل مرحلة من ذلك النزاع، كان الأداء الذاتي يتكرّر في خطوطه العريضة والرفيعة ولا يتغيّر: الاستناد إلى القوة وآلياتها وتعبيراتها المتعدّدة أو إلى وهجها حسب القول الشائع! وفي الحالَين، تمكن ذلك الأداء من الجميع تقريباً وانهار لبنان أو يكاد فيما السردية الحزبية تلهج بدوام زمن الانتصارات والتمكن من صد مؤامرات وحصارات الأعداء الواحدة تلو الأخرى، ثم إشهار الاطمئنان إلى مناعة الحالة الذاتية وصلابة البيئة الحاضنة لتلك الحالة !

لكن تلوح في هذه الأيام بوادر قراءة مختلفة لا تسرّ خاطر أهل البأس والقوة والطمأنينة المؤبّدة إلى نصرة رب الدنيا: لا البيئة الخاصة محصّنة كفاية إزاء الانهيارات المالية والخدماتية العامة، ولا المناورة تحت سقف حلف الأقليات ممكنة مثلما كان الحال سابقاً. قبل الآن بقليل، استثمر حزب إيران في قضية الانتخابات الرئاسية تحت شعار المجيء برئيس قوي (أمام من وماذا؟؟) وأمكنه النجاح في مبادلة الخدمات مع جمهور مسيحي لا يستهان به من خلال إيقاظ الذهن وشحذ الهمم لاستعادة ما “سرقه” الطائف من قدرات وصلاحيات! لكنه الآن يواجه قصة أخرى وتبعاتها مقلوبة: يواجه حرفياً المسيحي القوي وليس الضعيف! والأساسي وليس الهامشي، وساكن القلعة وليس السجين السابق، والعابر موضوعياً فوق الانقسام الطائفي وليس المتزعّم الأبرز للوجدان المسيحي وحده. وبهذا المعنى وبغيره، يرتكب حزب إيران خطيئة أخرى ويذهب بمكابرة ورعونة إلى كارثة أكيدة ستنعكس عليه بقدر أو أكثر من انعكاسها على الغير! وليس كلام البطريرك الراعي سوى الدليل الإضافي على ضمور زمن المناورات السابقة ووصول الأمور إلى مصافٍ لا تُحتمل!

صورة المنتصر فوق الحطام والركام لا تعدّل شيئاً في حقيقة وقوف بشار الأسد فوق رماد سوريا. ولا تغيّر حقيقة تعبيرات العراقيين في الانتخابات الأخيرة إزاء إيران وممارساتها وأدواتها المحلية. ولا توصل الحوثيين إلى مأرب ولا حتى إلى تثبيت السيطرة على صنعاء ذاتها. وهي بالتأكيد لن توصل البطريرك الماروني ولا الرأي العام المسيحي ولا عموم اللبنانيين المختلفين بالمذهب والطائفة والسياسة إلى تغيير قناعات ترسخت على مدى السنوات الماضيات، ومفادها الأخير أنّ التركيبة اللبنانية أقوى من السلطة المسلوبة بالقوة والتهديد وأكثر صلابة من أن تنخرها وعود تخريب وسلبطة… أصلب، على الأقل بمئة ألف مرة وأكثر!

شارك المقال