طريق اليرزة – بعبدا الدولية

عاصم عبد الرحمن

جنرالاتٌ ثلاثة انتقلوا مباشرةً من قيادة الجيش اللبناني إلى رئاسة الجمهورية هم: اللواء فؤاد شهاب عام ١٩٥٨، العماد إميل لحود عام ١٩٩٨ والعماد ميشال سليمان عام ٢٠٠٨، وذلك في لحظات سياسية وتحولات عربية، إقليمية ودولية أدت إلى انتخاب كل منهم رئيساً، فمن التوافق المصري – الأميركي زمن عبد الناصر وانسجاماً مع الانقلابات العسكرية في مصر، العراق وسوريا (شهاب) مروراً بترسيخ الهيمنة السورية في لبنان (لحود) وصولاً إلى التسوية السياسية – الدستورية أو ما يُعرف باتفاق الدوحة (سليمان).

إذاً، انتقل قادة الجيش الثلاثة إلى بعبدا على متن طوافة توافق داخلي وخارجي إنهاءً لأزمات وانقسامات محلية ومواكبةً لمتغيرات عربية أو إقليمية.

ولبنان اليوم يعيش أزمة القرن هي الأسوأ في تاريخه بحسب تقرير للبنك الدولي (صدر في ٢٥ آب ٢٠٢١) إذ جاء فيه: “من المُرجَّح أن تُصنَّف هذه الأزمة الاقتصادية والمالية ضمن أشد عشر أزمات، وربما إحدى أشد ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ العام ١٨٥٠”، وذلك على وقع جنون سياسي، انحراف ديبلوماسي؛ تفتت قضائي، انقسام طائفي وانحلال مؤسساتي، وحده الجيش بقيَ متماسكاً بعقيدته متمسكاً بلبنانه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، فعلى بُعد أشهرٍ قليلة من الاستحقاق الرئاسي مجهول المسار والمصير وأمام محرقة المرشحين هل ينتقل قائدٌ آخر للجيش من اليرزة إلى بعبدا منقِذاً توافقياً بتقاطعٍ عربي، إقليمي وبخاصة دولي”؟

شكَّل دور الجيش اللبناني إبان ثورة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ ووقوفه إلى جانب الشعب المنتفض رافضاً أي مواجهة معه مهما علا شأن طالبي الضرب بيدٍ حديدية؛ حدَّاً فاصلاً في مسيرة قائد الجيش العماد جوزف عون وهو ما اعتُبر تفوقاً تكتيكياً حققه الجنرال ضمن استراتيجية تحييد المؤسسة العسكرية عن الصراعات الداخلية والتجاذبات السياسية بين أطراف السلطة فقطع الطريق أمام مَنْ أراد إقحامه في ما لا يريد الداخل المنتفض والخارج المترقب ليتمَّ بالتالي حرق ملف ترشحه أو ترشيحه لرئاسة الجمهورية في زمن التحول الكبير والانهيار الخطير الذي لاحت بشائره في أفق ما قبل تشرين.

الجنرال جوزف عون المنتصر في جرود القاع ورأس بعلبك في معركته ضد الإرهاب عام ٢٠١٧؛ المقاتل في سبيل تأمين مقومات استمرارية قواته مادياً ومعنوياً عبر فتحه قنوات التواصل مع المجتمعَين العربي والدولي من أجل استقطاب الدعم اللوجيستي للجيش؛ الثائر في وجه السلطة مجتمعةً – حتى الرئيس ميشال عون – محملاً إياها مسؤولية إرهاق الجيش وتجويعه يوم قال في ٨ آذار ٢٠٢١: “ان الضباط العسكريين جزءٌ من المجتمع اللبناني الذي يعاني من صعوبات اقتصادية، العسكريون يعانون ويجوعون مثل الشعب، إلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا، حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع، وإمكان انفجاره”، والمتشبث بالسيادة الوطنية في ما يتعلق بملف التفاوض لترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة ففي ٧ تشرين الأول ٢٠٢١ قال عون: “الجيش اللبناني قام بواجبه الوطني في المطالبة بحقوقه في المياه البحرية، وأظهر احترافية عالية خلال جلسات التفاوض التقنية، استناداً إلى أحكام القانون الدولي”، هو أيضاً شيخ صلح عندما يدعوه الواجب الوطني إذ يقود مسعىً تصالحياً بين العشائر العربية وحزب الله في خلدة وذلك بمباركة من دار الفتوى، تيار المستقبل، الحزب التقدمي الإشتراكي وغيره وفق مصدر عشائري.

إذاً قلب القائد على جنوده وعينه على حشد ما أمكن من دعائم استقرار المؤسسة العسكرية واستمرارها فلا حسابات سياسية واردة في قاموسه.

ولكن إذا كانت الحسابات السياسية غير واردة في قاموس جوزف عون أقله حتى اللحظة، إلا أنه أُدخل في حسابات سياسية محلية وإقليمية والأهم دولية. فلم يكد يبتلع سياسيو لبنان بخاصة لائحة المرشحين إلى رئاسة الجمهورية حتى إستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ٢٦ أيار ٢٠٢١ متجاوزاً البروتوكول ومطلِقاً بذلك إشارات رئاسية واضحة في وقت تُوجَّه الإدانات وتالياً الإهانات بحق الطبقة الحاكمة برمتها، كذلك لقاؤه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ٢٨ تموز الفائت – إشارة إلى أنَّ الرئيس الراحل حسني مبارك استقبل العماد ميشال سليمان عام ٢٠٠٨ إبَّان الشغور الرئاسي عقب انتهاء ولاية الرئيس السابق إميل لحود – حتى استُكملت الرسالة الرئاسية الدولية من العاصمة الأكثر تأثيراً في الاستحقاق الدستوري الكبير حيث استُقبل العماد جوزف عون في الولايات المتحدة بحفاوة بالغة ترقى إلى مرتبة رئيس الدولة وليس موظفاً عاماً، رسالةٌ ذات شقين تُرجمت بطبيعة اللقاءات التي عقدها الجنرال أراد منها الأميركيون التأكيد على الثقة المطلقة بالمؤسسة العسكرية هذا على الصعيد التقني أما سياسياً فلربما أرادوا القول لمعرقلي العملية السياسية في لبنان: هناك قائد نثق به…

قد تنحصر المعركة الرئاسية بين ثلاثة مرشحين يعتبرون الأكثر جدية هم: جبران باسيل الذي لم يحرق ولاية ميشال عون منذ انطلاقتها بترويضها لضمان وراثته العهد فحسب بل أحرق ملف ترشحه لرئاسة الجمهورية داخلياً وخارجياً؛ سليمان فرنجية الذي لطالما كان خصماً شريفاً يتمتع بهامش جيد قابل للتوسع محلياً وعربياً حتى خليجياً ودولياً إلا أن إدارته للأزمة المستجدة مع الخليج أخلّت بميزانه الوسطي ربما ظناً منه بانتصار محور المقاومة في المنطقة ليكون المرشح الطبيعي في زمن البطولات الممانِعة، أما سمير جعجع الذي يسعى لتوسيع تكتله النيابي متكئاً إلى الكتف السعودية ومحافظاً على شعرة معاوية مع حركة أمل محاولاً تأمين أوسع قاعدة نيابية – ميثاقية لانتخابه رئيساً للجمهورية وهو ما يعتبره البعض ضرباً من المستحيل على قاعدة “أنا أو أنت” بين القوات اللبنانية و”حزب الله” ومَنْ يمثلان.

وعليه ربما وقف العماد جوزف عون من حيث يدري أو لا يدري مرشحاً قد يكون الأقوى لا بل الأوفر حظاً في زمن التغيير الكبير كما وقف سلفه البعيد اللواء فؤاد شهاب أو القريب العماد ميشال سليمان اللذان أتت بهما التسويات الممتدة من المحيط العربي مروراً بالإقليمي وحتى الدولي.

جوزف عون الذي ترجم عقيدة الجيش بالشرف يوم حارب الإرهاب، بالتضحية يوم وقف إلى جانب شعبه المنتفض وبالوفاء اليوم لجنوده المرهقين بفعل الإنهيار المالي والإقتصادي، فهل تُعبَّد أمامه الطريق الرئاسية من اليرزة إلى بعبدا بالإسفلت الدولي؟

إنَّ الغد الرئاسي لناظره قريب…

شارك المقال