لبنان ومصر… والمصير

علي نون
علي نون

قد لا تعجب هذه الاستنتاجات كثيرين، لكنها من الضرورات الأكيدة للنص الذي نحن في صدده، عدا عن كونها من ثوابت التاريخ وحوادثه.

منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني للقرن العشرين، عاش اللبنانيون (حتى قبل نضوج الهوية الكيانية اللبنانية) تحت تاثيرات “العامل المصري” إذا صح التعبير، أكثر من أي “عامل” آخر برغم وطأة “الحضور” العثماني، والاستعمار الفرنسي، و”الجيرة” المضادة الإسرائيلية.

وفِي الأمر بواعث غرابة أكيدة، لم تكن نكسة العام ١٩٦٧ سوى أبرز دلالاتها باعتبار أن لبنان الذي لم يكن معنياً ميدانياً، أي بالمعنى الحربي القتالي المباشر بتلك الانعطافة الكبرى في النزاع العربي – الإسرائيلي، إلا أنه مثلما تبين لاحقاً، غنم تكتيكياً، أي لم يخسر أرضاً، وخسر استراتيجياً. وتداعيات ذلك بالنسبة إلى كثيرين، تصاعدت حتى انفجار الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥.

وثقل التاريخ في كل حال، لا يكفي لموازنة ثقل الانتماءات والروابط والهوية الجامعة للأرض والعرق والمسار والمصير، وهذا استطراد لا بد منه كي لا يأخذ أصحاب القراءات الخاطئة على كاتب هذا النص شبهة عداوة أو شوفينية كريهة أو مقاصد غير دقيقة أو غير واردة لا في البال ولا في حواشي القلوب المأسورة بحب أم الدنيا ونيلها وأهلها.

وذلك التاريخ الثقيل يتضمن في فصوله ذات الصِّلة، أن أول “حرب أهلية ” بين سكان الجبل اللبناني، واستناداً إلى الانتماء الديني المحض، جاءت في العام ١٨٤٠ غداة حملة ابراهيم باشا في بر الشام وما شهدته من مناورات استندت إلى فعل تحريضي سرعان ما ترجم انقساماً دموياً حارقاً بين المسيحيين والدروز . الباشا ابن محمد علي، خالف الجماعة الدرزية تبعاً لحلفه مع الأمير بشير الشهابي والتقاء الأهواء والغايات مع الفرنسيين في وجه السلطنة العثمانية والإنكليز، وانعكست سياسته تقارباً مع نصارى الجبل اللبناني، ما استنفر واستفز حمية الدروز، الشركاء في الجبل وحكمه، لأنه، أي ابراهيم باشا، ميز بينهم وبين جيرانهم المسيحيين، ولأنه في الخلاصة، اضطهدهم وكسر شوكتهم وأخذ أولادهم إلى حروب لا تعنيهم.

اللعب على التناقضات فن سياسي تام في ذاته، ويستند إلى مقولة “فرق تسد” التي عمرها من عمر تاريخ البشر والغزوات والحروب، ويعتمدها كل غاز حصيف يريد تأمين ظهره وصدره في الأرض المستباحة وبين أهلها المتعددي الانتماءات، وما فعله ابراهيم باشا لم يخرج عن ذلك السياق الانتهازي (المحمود لأصحابه!) حيث قام بما يمليه عليه واجبه المقدس بتحقيق الأهداف التي جاء من أجلها أولاً وأساساً ومن دون أن يتوقف كثيراً أو قليلاً أمام الوسائل التي اعتمدها وكلفتها على الضحايا.

لكن الجانب الآخر من الصورة يفيد بأن ابراهيم باشا وجد فرصة واستغلها فلم يخترع الانقسام الذي كان موجوداً، بل غذاه ونماه: اشتغل على تركة الأمير بشير الشهابي ونفخ جمرها حتى اشتعلت، أي أن الانقسام كان موجوداً، وهذا تراكم جراء ممارسات ذلك الحاكم الشهابي الذي وصف بأنه أمير الغدر، وأكثر من بطش بالدروز وأعيانهم وكبارهم، في مقابل محاباة المسيحيين وأعيانهم وكبارهم، واعتمد إقليمياً (في مصطلحات اليوم) خاصية لبنانية ظلت صالحة للاستخدام بعد ذلك ولا تزال! وهي خاصية استدرار الحماية والدعم وأسباب النفوذ من الخارج للاستقواء والاستثمار في الداخل! سوى أن الباشا المصري فعل ما لم يفعله العثمانيون على مدى وجودهم في بر الشام، وما لم يفعله الفرنسيون لاحقاً في مرحلة الانتداب التي انتهت بعد الحرب العالمية الثانية.

لا العثمانيون كانوا منزهين عن الهوى الديني، ولا الفرنسيون أيضاً، لكن الطرفين تورعا عن إحراق الأرض التي يقفان عليها فيما اختار ابراهيم باشا أن يفعل العكس لأنه كان يعرف أن وجوده في الجبل اللبناني لن يطول!.

المحطة الثانية هي تلك الخاصة بموضوع النكسة، لكن القفز فوقها قبل العودة إليها، ضروري لإكمال السياق. وهذا يوصل إلى رحلة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس المحتلة في العام ١٩٧٧ وكيف اعادت إشعال الحرب في لبنان بحكم الضرورات الاستراتيجية لـ”الصمود والتصدي”.

قوات الردع العربية بأكثريتها السورية كانت دخلت إلى لبنان في العام ١٩٧٦ وأنهت القتال وقزمت طموحات وقدرات الحلف الفلسطيني – اليساري لصالح إعادة إحياء الدولة اللبنانية بعنوانها العام والشامل، أي باعتبارها دولة الطرف الآخر اليميني المسيحي أكثر من كونها دولة مركزية تليق بوصفها! لكن ذهاب السادات منفرداً إلى القدس، غير وقلب حسابات الأسد وقلص خياراته ودفعه إلى إعادة تجميع أوراقه إقليمياً ولبنانياً، وفِي موازاة قلب الصفحة السيئة مع صنوه اللدود، نظام “البعث” العراقي لإنتاج جبهة الصمود والتصدي (مع ليبيا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية) قلب الصفحة في لبنان واستنفر أعداء الأمس في المحور الفلسطيني -اليساري من أجل تدعيم جبهة الرفض للخطوة الساداتية، فعاد اليمين المسيحي إلى البدايات والطموحات والتمنيات ووجد في خطوة السادات كسراً للمحرمات ودفعاً لخيار “الانفتاح” على إسرائيل من موقع الحليف.

ابراهيم باشا في العام ١٨٤٠ وأنور السادات في العام ١٩٧٧ وبينهما جمال عبدالناصر وَعَبَد الحكيم عامر و”النكسة”، وكثيرون هم المقيمون عند يقين مفاده أنه لولا تلك “النكسة” لما تدحرجت الأمور باتجاه الانفجار اللبناني الكبير في العام ١٩٧٥، باعتبار أن خسارة الضفة الغربية وغزة دفعت بالعمل الفلسطيني إلى الخاصرتين الرخوتين: الاْردن ولبنان، لكن نجاح الحكم الهاشمي في إنهاء الازدواجية السلطوية والعسكرية والأمنية مع قوى منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر عام ١٩٧٠ دفع بتلك القوى مع ناسها وسلاحها إلى لبنان، وبدأ العد العكسي للانفجار الحتمي.

ومرة اخرى هبط العامل الخارجي على أرضية داخلية رخوة ومهيأة ومستعدة بحيث إن المرحلة التي سبقت النكسة كانت في لبنان، مثلها في غيره من عوالم العرب، مد ناصري طاغ دغدغ الأسماع وأحيا آمالاً عظيمة ومزدوجة: أولاً في شأن “تحرير فلسطين” وثانياً في شأن مقارعة تحديات الفرقة والإقليمية والتنمية الخ … وذلك، وإن أنتج في دول عربية عدة دخول العسكر على كل نواحي الحياة السياسية والدستورية وفخّم الانقلابات باعتبارها ثورات، ومكّن في دولتين محوريتين هما العراق وسوريا، من تحكم “البعث” باعتباره صنواً للقومية الناصرية ومتمماً لها ومزايداً عليها، فإنه في لبنان زاد على علله الأولى، الطائفية والمذهبية، أمراضاً مركبة من ذلك النوع الذي لا مثيل له في أي مكان آخر: اليسار الأممي (الشيوعي بوضوح) مع اليسار القومي الناصري والبعثي.. مع حضور فلسطيني مدني في بداياته ومحصور في مخيمات اللجوء، ثم عسكري ميليشيوي منفوخ ومنتشر في معظم الأرجاء اللبنانية، من “الجبهة” مع إسرائيل جنوباً إلى الشمال مروراً بكل ناحية أخرى ساحلاً وجبلاً وشرقاً وغرباً.

والأمر الانقسامي ذاك، للمفارقة، كان يحمل بعض النواحي الإيجابية باعتبار أنه دل على ضمور المعطى المذهبي والطائفي في الاصطفافات السياسية، أو هكذا توهم أهل الشطط اليساري في كل حال خصوصاً وأن المرحّلة السابقة على “النكسة” كانت لا تزال تحمل في بعض نواحيها المعتمة، تداعيات ما سمي بـ”ثورة”العام ١٩٥٨.

وهذه بدورها كانت واحدة من تأثيرات “العامل المصري”في المصير اللبناني وإن كانت مختصرة وعابرة قياساً إلى ما حصل عام ١٩٧٥، بحيث إن الوحدة المصرية – السورية حركت الانقسامات اللبنانية ودفعت بها إلى درجة الغليان الذي سرعان ما ترجم ميدانياً وسياسياً لكن من دون أن يأخذ البلد برمته إلى الهاوية التي نزل إليها منذ العام ١٩٧٥… وبديهي القول إن وجود شخصية من طينة وحجم ووزن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كان سبباً رئيسياً وأساسياً وحاسماً في منع ذهاب اللبنانيين إلى الإمعان في هواية ذبح بعضهم بعضاً. ولا ينكر ألا مفتر حقيقة أن ذلك الرجل حمى لبنان من بعض أهله وأبدى حكمة جليلة إزاءه وأداء دوره في العموم وكان أرحم به من كثيرين يحملون جنسيته!

“العامل” المصري الحاسم هذا أمكنه لجم حوادث العام ١٩٥٨ في فترة قصيرة نسبيا. وهو (العامل) الذي كان يمكنه أن يستثمر في انقسامات اللبنانيين وأزماتهم ويزيدها حدة وتشظياً وانفجاراً… وكثيرون بعد ذلك يقيمون عند قناعة مفادها أن مصر خسرت برحيل ناصر قائدها وزعيمها لكن لبنان خسر صمام أمانه واستقراره بالتأكيد.

… بعد ناصر والمرحلة الساداتية التي أثرت في مجمل الوضع العربي ومن ضمنه لبنان، جاءت المرحلة التالية التي قادها الراحل حسني مبارك لتكمل المسار الرسمي المصري المديد بالتعامل مع لبنان من موقع الحاني والمتفهم والمساند والداعم والباحث عن تركيز استقراره والتعامل مع قضاياه بهدوء وسلاسة والارتكاز على ذلك بموقف مشترك (وموحد في واقع الحال) مع المملكة العربية السعودية على جاري عادتها وعلى مدى تاريخها الحديث.

والواقع الذي لا يجادَل راهناً، هو أن ذلك المسار لا يزال قائماً مع الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي لم تخرج منه وعنه إشارة سلبية واحدة إزاء لبنان، ولم يُعرف عنه وقوفه ضد اي معطى يخدم الاستقرار اللبناني أو يدعم وحدة اللبنانيين ويعين دولتهم على اقتدارها. وزير خارجيته سامح شكري جاء بالأمس إلى بيروت حاملاً ذلك الهم وباحثاً عن الكيفية المثلى لدعم المبادرة الفرنسية الآيلة إلى إنهاء أزمة تشكيل الحكومة وبما يرضي معظم اللبنانيين طالما أن القدرة على إرضاء الجميع تعتبر من سابع المستحيلات.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً