بين الاستقلال والاستقلالية 

عاصم عبد الرحمن

ها هو العيد الثامن والسبعون لاستقلال اللبنانيين عن الانتداب الفرنسي الذي حُكم لبنان بموجبه أكثر من 20 عاماً أي حتى جلاء آخر الجنود الفرنسيين في 31 كانون الأول 1946.

وما أشبه ذاك اليوم بمراحله التحررية وإرهاصاته السياسية بما يجري اليوم من مواجهات بين الطبقة الحاكمة وشعب استشعر حنين الانتداب – على الرغم مما يعنيه من عبودية – إثر معاناته اللامحدودة حيال الجوع والنهش والتهجير الذي يعيشه جراء سلطة أكلت أخضر مقومات الدولة ويباسها وذلك في حب المال والقوة والسيطرة.

لعل الميثاق الوطني الذي أرسى أسسه كل من رئيسَيْ الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943 المحطة الأبرز في تاريخ لبنان السياسي إذ عكس هذا الميثاق تعددية المجتمع اللبناني سياسياً، طائفياً، مذهبياً، ثقافياً وغير ذلك، فاجتمع المسيحيون متخلين عن اللحاق بفرنسا مع المسلمين الذين تخلوا بدورهم عن الذوبان بسوريا الكبرى آنذاك ليجتمعوا حول أعراف وطنية زرعت البذور الأولى للعيش المشترك بين اللبنانيين فكتبوا بذلك لبنان الرسالة.

فهل حقق اللبنانيون حتماً استقلالهم وبنوا دولة مستقلة ذات سيادة؟ وهل أدى الميثاق الوطني قسطه للعلا في بناء عيش مشترك روحيته المواطنة؟

تنص الفقرة “ي” من مقدمة الدستور على أنه: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، هكذا رُسِّخ العيش المشترك في الدستور ونزعت الشرعية الدستورية والقانونية عن أي سلطة أو مؤسسة تعنى بالإدارة العامة والشأن العام لا تحترم في توزعها وتركيبتها التعددية الطائفية والمذهبية التي تشكل المجتمع اللبناني كمجلسيْ النواب والوزراء وفئات الوظائف الأولى وغيرها…

إلا أن هذه الفقرة جُعل منها قميص عثمان، فاختبأت معظم الزعامات التي تستشعر خطر الزوال السياسي خلف الطائفة التي يتذكرون انتماءهم إليها لحظة الدفاع عن المنصب المخصص عرفياً لأبناء طائفته حتى انسحبت الدولة لصالح الجزر والدويلات الطائفية، وسقطت الأحزاب التي يفترض أنها وطنية – ديموقراطية في براثن الهيمنة العائلية – الطائفية فضاعت الهوية اللبنانية بين الاستقلال السياسي – الجغرافي والاستقلالية الحزبية – المذهبية ورُجم عندها الميثاق والعيش المشترك بتهمة الفجور الإداري.

كادت تجربة الكتلة الوطنية والدستورية تمهد لحال سياسية وطنية كالحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة، لكن كان هناك مَنْ يتربص بقيام دولة القانون، فؤاد شهاب التجربة المؤسساتية الوطنية الفريدة أعاد إحياءها رفيق الحريري في بناء الجغرافيا وإعادة دمج الديموغرافيا وما بينهما حرب طائفية أريد لها إيجاد أرض محروقة ليست صالحة للزرع الدولتي المؤسساتي ربما لصالح غير إسرائيل أيضاً، تجربة بشير الجميل التي لم تبصر النور يؤمن أنصارها بأنها كانت مشروع دولة، حتى ميشال عون القائد العسكري المحارب للوجود السوري كاد يوهم أبناء الطوائف كافة أنه زعيم عابر للطائفة والمنطقة والحزب، إلا أن ذوبان الثلج المصلحي النرجسي سرعان ما أظهر مرج الاستغلال الطائفي والوظيفي والحزبي من أجل حفنة من السلطة، ثم تُرمى التعددية اللبنانية بتهمة الفجور الإداري.

ولطالما تميز لبنان بتعدده الطائفي والمذهبي والسياسي والثقافي وشكّل هذا التعدد غنىً مجتمعياً أطلق في حضرته البابا الراحل يوحنا الثاني تسمية “وطن الرسالة”، إذ ان لبنان يحتضن تنوعاً مجتمعياً يعكس تجربةً من التعايش بين المجموعات المختلفة اختارت أن تعيش معاً ضمن الوحدة اللبنانية. إن هذا التنوع ليس نواة المشكلة في لبنان السياسي وإنما هناك حاجة للاعتراف به وإعادة الاعتبار لعظمة رسالته النموذجية فذلك هو الطريق الأمثل إلى بناء دولة قانون مهما تعددت مكوناتها فالمطلوب هو حسن إدارتها من خلال المشاركة في النظام السياسي عبر مختلف المكونات اللبنانية بروحية المواطنة والتفاهم وإلا سقط لبنان الذي يفترض أنه ديموقراطي في ديكتاتورية الأكثرية أو الأقلية الطائفية – المذهبية وليست الحزبية – السياسية وفق منطق تصريف فائض قوة ما.

إن تجربة التعددية التي يتميز بها لبنان إذا ما احتُرم فيها الاختلاف لا بل الحق في هذا الاختلاف، كانت سمحت بسلوك الدولة طريقها نحو الديموقراطية والحداثة، وهو ما ينبغي أن يرتقي إلى مستوى المشاركة السياسية المتوازنة في نظام تعددي بخاصة لجهة تأمين صحة التمثيل السياسي وديموقراطية تداول السلطة في نظام برلماني، وهذا ما يتطلب قيام دولة قوية تنتهج الكفاءة والشفافية حتى من ضمن الطوائف، فهل الانتماء إلى مجموعة ما ينتقص من ميزات الأهلية في تقلّد الوظيفة؟ حتماً لا بل هذا التنوع إذا ما استخدم على الوجه الذي يعكس روحية التعددية لجعل منها منصة تبادل ثقافي وفتح عبرها آفاقاً لأفكار قد تتعدى حدود الوطن نحو العالمية.

لعل التجربة الفريدة التي يتميز بها لبنان هي أنه أسقط النظريات السياسية وابتكر مصطلحات خاصة بممارسة السلطة والحكم حتى عجزت المفاهيم والمدارس السياسية عن إدراك كيفية إدارة الدولة وممارسة العمل السياسي وتطبيق الديموقراطية، فلا يمكن الركون إلى تحليل سياسي ثابت أو التنبؤ بأحداث سياسية وفق المفاهيم العلمية المعروفة، لبنان اليوم هو مدرسة سياسية فريدة يمارس السياسة بشكل آني طبقاً للمصلحة المستجدة فتقف عاجزاً عن فهم ما جرى وسيجري في المقبل من الأيام والتي ترفع شعار: “الآتي أعظم”.

وعند السؤال عن فشل التجربة اللبنانية التعددية يأتي الجواب من زوايا الزعامات الطائفية والأحزاب العقائدية والهيمنة العائلية في الحكم أن الطائفية تمنع قيام الدولة، مع العلم أن إدارة شؤون الدولة ذات المجتمعات المتعددة تتطلب ما يلي:

١- تطبيق الديموقراطية التوافقية بالشكل الذي تسمح فيه بمراقبة السلطتين التشريعية والتنفيذية.

٢- إقرار قانون عصري للأحزاب السياسية يواكب المتغيرات كافة عوض الوقوف على أطلال العلم والخبر العثماني في تأسيس الأحزاب منذ العام 1925.

٣- إعتماد قانون إنتخابي قائم على النسبية الحقيقية تعكس التنوع ولا تشيطنه كقانون انتخابات 2018.

٤- تطبيق اللامركزية الإدارية الواردة في اتفاق الطائف، والتي من شأنها أن تحقق الإنماء المتوازن وتحد من هواجس الجماعات اللبنانية المتعددة.

في زمن الاستقلال، لم يعد مقنعاً الاحتفال به فهو ليس مجرد صورة تذكارية للسياسيين المتناحرين أو مناسبة جامعة قالباً لا قلباً للنكد السياسي لتسقط تباعاً إمكانات قيامة الدولة لصالح المصالح برصاص الطائفية، فالمشكلة، إذاً، ليست في طائفة الكرسي بل مَنْ يجلس باسم الطائفة على هذا الكرسي، وبين الاستقلال عن الوطن والدولة والاستقلالية بالتبعية الخارجية وفق الانتماء الطائفي والسياسي أضاع لبنان هويته الوطنية.

شارك المقال