الرئيس القوي… ماذا بقي من قوته؟

أنطوني جعجع

ماذا بقي من عهد ميشال عون يمكن أن نراهن عليه؟ أو في معنى آخر ماذا بقي من رصيد الرجل يمكن أن يدخله التاريخ “بطلاً” حقيقياً لا “وهماً” حقيقياً؟

ربما تكون المرة الأولى في تاريخ الرؤساء الموارنة في لبنان يتفق الناس، بعضهم سراً وبعضهم علناً، على أن الرئيس ميشال عون لم يكن على قدر الآمال التي وضعت عليه، لا بل على قدر الصورة التي أظهرها للناس على مدى ثلاثين عاماً، أي صورة الرجل الآتي إلى الجيش مقاتلاً وإلى السياسة شفافاً، وإلى الزعامة قائداً، وإلى الحكم منقذاً.

وربما تكون المرة الأولى منذ الاستقلال في العام ١٩٤٣ يتعرض رئيس لبناني لهذا الكمّ من التجريح والانتقاد، وهذا الكمّ من البيانات والتصريحات والنداءات التي تدعوه إلى التنحي قبل انتهاء ولايته.

قد يقول قائل إن الرئيس الراحل سليمان فرنجية واجه حملات مماثلة إلى حد ما، خلال ما عرف بـ”حرب السنتين” ما اضطره إلى تقديم الانتخابات الرئاسية ستة أشهر وانتخاب الياس سركيس خلفا له. لكن هذا الأمر الذي حدث في ظروف أمنية وإقليمية ودولية استثنائية، لا ينطبق على العهد الحالي المتعثر على كل المستويات، والعاجز عن إيجاد أي مخارج وحلول من أي نوع، لوطن لم يبق منه ما يبقي أبناءه في أرضهم أو ما يدفع حتى فاعل خير إلى التدخل لانتشالهم من “جهنم”.

وقد يقول قائل أيضاً أن الرئيس عون ربما قلل من شأن العراقيل التي يمكن أن تواجهه، ومن شأن حجم الفساد المتجذر في عروق الدولة، ومن فسيفساء الحصص الموزعة على أركان الأحزاب والطوائف، أو ربما اعتقد، إما لثقة عارمة في النفس وإما لغرور لافت، أن مجرد وجوده في القصر الرئاسي سيؤدي حكماً إلى عملية إصلاح وتغيير عفوية، مستنسخاً على ما يبدو هيبة الرئيس بشير الجميل في الوجدان المسيحي، وهيبة السيد حسن نصرالله في الوجدان الشيعي، ورصيد المملكة العربية السعودية وآل الحريري في الوجدان السني.

لكن حسابات عون ذهبت في اتجاه آخر، وكذلك آمال اللبنانيين عموماً ورهانات جمهوره خصوصاً. فلا ردع الإدارة كما فعل البشير، ولا عوم فريقه المسيحي كما فعل نصرالله، ولا حرّك الاقتصاد كما فعل رفيق الحريري، وصب تركيزه على تأمين الخليفة، وعدم الدوس على أي لغم غير محسوب، وتسديد ديونه السياسية بدل بناء الدولة المثالية التي وعد بها أو على الأقل الدولة القوية، وصون القرار الرسمي الحر، وحماية السيادة التي ذابت في مغامرات “حزب الله ” وأسهمت في نقل لبنان من الوطن الضحية إلى الطرف الجاني في غير مكان.

ويقول أحد المقربين من الجنرال إن الأخير تصرف وكأن مهمته انتهت بمجرد انتخابه رئيساً، مشيراً إلى أن الرجل لم يوفر أي وسيلة وأي مرجع وأي باب وأي ثمن، من أجل العودة إلى قصر بعبدا، وأنه لن يوفر أي وسيلة للبقاء فيه ما دام حياً.

ويضيف أن خطأ ميشال عون بدأ عندما اعتبر أن مصالح صهره تتقدم على مصالح الوطن، وأن سلاح “حزب الله” يتقدم على سلاح الجيش، وأن بيئة الممانعة تتقدم على البيئة العربية والدولية، وأن موقع التيار الوطني الحر يتقدم على موقع المجتمع المسيحي الواسع.

ويرى أن عون لا يبدو منزعجاً من هذه الخيارات، ويتصرف وكأن ما يفعله هو أفضل الممكن في مكان أو الممكن الأصح في مكان آخر، متحاشياً الانفتاح على الخارج وتنويع اتصالاته المحصورة فقط بالمحور السوري – الإيراني الغارق أصلاً في الحروب والإفلاس والعزلة الخانقة، إضافة إلى التعامل مع غضب الناس ومآخذ العرب والغرب، على أنهما نوع من المؤامرة التي تريد إسقاطه رئيساً كما أسقطته رئيساً لحكومة انتقالية قبل نحو ثلاثين عاماً.

ونعود إلى السؤال: ماذا بقي من عهد ميشال عون ما يمكن الرهان عليه؟

الواقع أن شيئاً واحداً لم يبق. لقد استنفد الرجل كل الفرص، فتأخر في مكان وتقاعس في آخر، فلم يضرب على الطاولة حين كان يجب أن يضرب، ولا حاسب حين كان يجب أن يحاسب، واتبع اسلوباً مائعاً لا جدية فيه ولا متابعة ولا هيبة، وتحول من رئيس للجمهورية إلى رئيس حاشية تفتقد إلى الكثير من الحكمة والتجرد، وإلى صوت لا يسمعه الكثير، وإلى حضور لا يشعر به كثيرون، معتقداً أن الجمهور الذي آمن به وتغاضى عن كل أخطائه وغفر له كل سقطاته، سيبقى على ولائه المطلق، وأن “حزب الله” الذي جاهد لإيصاله إلى الرئاسة الأولى، سيبني له ما لا يبنيه لإيران، وأن لبنان الرسالة الذي حظي باحترام العالم وتعاطفه لن يتعرض للأذى من أي جهة عربية أو دولية، متجاهلاً أن هذا اللبنان لم يعد يغوي أحداً بعدما تحول إلى بلد الرصاص والنفايات والفساد والتهريب والتزوير والارهاب والإفلاس والجوع، وبعدما أمضى الرجل أربع سنوات ونصف السنة في الحكم وهو يتفرج على انهيار مؤسسات البلاد الواحدة بعد أخرى، ويشارك الأحزاب لعبة الحصص والأرقام بدل التعالي على المصالح الشخصية والاضطلاع بدور رجل الدولة، الذي يرأس الطاولة أينما كان موقع كرسيه، من دون أن يتمكن من تحقيق انجاز واحد على كل المستويات حتى من إضاءة لمبة واحدة في بلد” الإشعاع والنور”.

وأخيراً يمكن القول إن عون تسلم بلداً يحتضر في صمت لكنه أثر التعامل معه مثقلاً باتفاق مار مخايل وطموحات جبران باسيل، وتعامل مع احتضار المؤسسات ملقياً اللوم على سواه ممن سبقوه بدلاً من اللجوء إلى واحد من خيارين: إما الاستقامة وإما الاستقالة…

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً