حكمت المحكمة

عالية منصور

السجن مدى الحياة للضابط السوري أنور رسلان هو الحكم الذي نطقت به أمس محكمة “كوبلنز” في ألمانيا بعد جلسات امتدت لنحو سنتين ونصف السنة، وتمت ادانة رسلان بارتكاب جرائم تعذيب وقتل بحق معتقلين سوريين.

الضابط السوري اللاجئ في ألمانيا الذي كان يعمل في فرع الأمن المعروف باسم “فرع الخطيب” في العاصمة السورية دمشق، وهو أحد الفروع الأمنية التي، وكغيره من الفروع الامنية في سوريا، مورست وتمارس فيه أبشع انواع التعذيب بحق السوريين.

ووفقا للمدعين الفيدرالين، كما نقلت عنهم وكالة “فرانس برس”، أن رسلان كان الضابط الأعلى المسؤول عن “فرع الخطيب”، وأشرف على “التعذيب المنهجي والوحشي” لأكثر من 4000 معتقل ما بين نيسان 2011 وأيلول 2012، مما أدى إلى مقتل 58 معتقلا على الأقل.

وقبل النطق بالحكم، اطلق ناشطون سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي حملة “بدنا المعتقلين”، على مدى اسبوع للتذكير بقضية المعتقلين وقصصهم وعذابات عائلاتهم، وطالب المشاركون في هذه الحملة، المنظمات الحقوقية السورية والدولية بالتحرك للكشف عن مصير مئات الآلاف من المعتقلين والمختفين السوريين قسرًا في سجون نظام الأسد.

وما ان اصدرت المحكمة الحكم بحق رسلان، تفاعل السوريون في مختلف دول العالم مع القرار، وتراوحت ردود الفعل ما بين من اعتبر القرار قرارا تاريخيا وبين من اعتبره خطوة وبصيص امل لتحقيق العدالة للضحايا، وبين آخرين رفضوا المحاكمة من اساسها، واعتبروا انها ملهاة واضاعة للحقيقة وتغاض عن الفاعل الحقيقي وهو بشار الاسد.

البعض سأل لماذا يحاكم رسلان بينما عاش رفعت الاسد شقيق حافظ الاسد في فرنسا واسبانيا مرفّها وهو المعروف بالجرائم التي ارتكبها من مجزرة تدمر حيث قضى الآلاف الى مجزرة حماة، المدينة التي دكّها هو وشقيقه بالمدفعية وحاصروها وقتلوا من اهلها عشرات الآلاف، لم ينتبه اصحاب هذا السؤال ان من كان بامكانه ملاحقة رفعت بعد خروجه من سوريا لم يفعل.

البعض الآخر اعتبر انه لا يجوز ان يحاكم رسلان وهو الذي انشق عن النظام لاحقا وصار لاجئا في المانيا، بينما ضباط كثر مستمرون في ارتكابهم المجازر ولم يحاكموا، بل وان الحكم لن يشجع احدا على الانشقاق بعد الآن عن نظام الاسد، وكأن الانشقاق بحد ذاته يعني العفو عما ارتكب من جرائم.

بينما اعتبر بعض مؤيدي نظرية المؤامرة ان الهدف من المحاكمة هو تقديم جائزة ترضية للسوريين ليتم بعدها العفو عن المجرمين الحقيقيين الذين اوغلوا بدماء السوريين على مدى عشر سنوات ولم يشبعوا.

قد تكون كل هذه الآراء محقة بجانب ما، الا ان اللافت هو فقدان الثقة بكل ما له علاقة بالعدالة، وعدم الاعتراف باستقلالية القضاء في دولة مثل المانيا، وكأن المحكمة تلقت اتصالا هاتفيا من جهة ما فاصدرت حكمها، كما يحصل في سوريا.

قلة ممن رفضوا الحكم رفضوه لانهم في الاساس ليسوا ضد الجريمة بحد ذاتها بل ضدها وفقا لمن هو مرتكبها، فان تغير الفاعل قبلوا بالجريمة ووجدوا التبريرات لها، تماما كأولئك الذين يدينون التعذيب في سجون الاسد ويبررونه في سجون بعض الفصائل المحسوبة زورا على الثورة.

السوريون اليوم احوج ما يكونون الى استعادة ثقتهم بمفهوم العدالة، العدالة للجميع وادانة ومحاسبة كل مرتكب ايا يكن، من دون ان يعني ذلك عدم المطالبة والسعي لمحاكمة كل من شارك في تعذيب وقتل السوريين واولهم بشار الاسد، فالعدالة الانتقائية ليست عدالة.

وعلى الرغم من أن الحكم قد صدر عن محكمة ألمانية وفقا لاختصاصها القضائي الشامل، أي أنه لم يصدر عن محكمة جنايات دولية متخصصة في النظر بجرائم الحرب في سوريا، وعلى الرغم من أن الحكم ما زال حكما ابتدائيا قابلا للاستئناف، إلا أنه بحد ذاته تذكير لجميع الضحايا أن العدالة ستأخذ مجراها بشكل أو بآخر وهو أيضا تذكير للقتلة والمجرمين ومرتكبي الانتهاكات أن عالم اليوم لم يعد ذلك المكان الذي يمكن الافلات فيه من العقاب.

ربما لا يرضينا هذا الحكم بحد ذاته لأنه مجرد محاكمة فرد قاتل من بين عشرات آلاف القتلة، عن جرائم ارتكبتها آلة إجرامية كبيرة هي نظام بشار الأسد، لكنه بداية لما هو آت وهو بحد ذاته يجب أن يقول للمجرمين أن جرائمكم لن تمر وسيحصل السوريون يوما ما على حقهم في محاكمة كل القتلة وإن طال الزمان.

شارك المقال