عون في دار الافتاء… الضيف الثقيل!

أنطوني جعجع

لم يكن ينقص الرئيس ميشال عون لاثبات تورطه المباشر في ازاحة سعد الحريري، الا زيارة دار الافتاء في شكل أوحى بأن الرجل يؤم مجلس عزاء أو يمشي في جنازة ضحيته…

وهنا تحضرني طرفة قديمة من زمن الحرب، وتتمثل في دعوة النائب الكتائبي الراحل جورج سعادة الى مهرجان شعبي تقيمه “القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع في ملعب برج حمود، فلبى الدعوة ممازحاً: “أشعر وكأنني السني المدعو الى ذكرى عاشوراء”.

وليس في هذا الاستحضار ما يسيء الى ما بين السنة والشيعة، بل اضاءة على خطوة مماثلة قام بها عون حيال طائفة كبيرة ساهم في تطويق ركنها الأساسي مرة، واطاحته مرة، واهانته مرة، وعرقلته في كل المرات، وصولاً الى اتهام طائفته بالأصولية الداعشية “الأنيقة” التي كادت “تذبح” المسيحيين لولا تحالفه مع “حزب الله” في “مار مخايل”…

والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا الآن؟ ماذا كان يمنع ميشال عون من زيارة دار الافتاء قبل اعتكاف سعد الحريري؟ وما هي الجدوى أو الغاية من زيارتها والثناء على دور السنة الأساسي في الكيان اللبناني، هم الذين كانوا في تسريباته حتى الأمس القريب “أعداء” يقفون في وجه “حزب الله”، أو يتماهون مع “القوات اللبنانية”، أو يتعاطغون مع التيارات الأصولية ومع دول الخليج وتحديداً السعودية، ولا يتبنون جبران باسيل رئيساً مقبلاً للجمهورية اللبنانية، ولا يختارون بديلاً عن تيار “المستقبل”، أو يتحمسون لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، والانفتاح على محور الممانعة بطريقة أو بأخرى؟.

والسؤال أيضاً، هل كان سعد الحريري العائق الذي يمنع كل ذلك، وبات بالتالي استيعاب السنة ممكناً بعد اعتكافه، وبات تجييرهم أيضاً لمصلحة “التيار الوطني الحر” عشية الانتخابات النيابية المقبلة أمراً لا يحتاج الى الكثير من العناء والجهد والتضحيات والتنازلات؟.

وهل يعني ذلك أن الناخب السني “عنصر هوائي” يميل كما تميل الريح ويفتقر الى الحد الأدنى من الحس السياسي الذي يختار رجاله على أساسه ويحدد مساره وفق مصالحه؟.

لا شك أن عون، وجه اهانة غير مباشرة الى السنة، عندما دخل دارتهم نافضاً يديه مما أصاب سعد الحريري على يديه، هو الذي تناسى موقعه الرئاسي ذات يوم ليطلب من النواب عدم تسمية الرجل لتشكيل حكومة جديدة ، وعمل مع صهره لمنعه من تشكيلها، وساهم في اطاحة حكومته من دارته في الرابية بينما كان يهم بمقابلة الرئيس باراك اوباما في البيت الأبيض، وقطع له مع “حزب الله”، “one way ticket” وأبقاه في ما يشبه المنفى نحو ثلاث سنوات، ووفر غطاء مسيحياً علنيأ لغزوة “بيروت السنية” في السابع من أيار.

وقد يسأل أحد: وهل كان على مفتي رئاسة الجمهورية الامتناع عن استقباله؟. والجواب طبعاً لا، احتراماً لموقع رئاسة الجمهورية أولاً، وثانياً حرصاً على وطنية الدار وأخلاقياتها، وثالثاً التماهي مع بكركي التي تستقبل الزعماء المسلمين وكأنهم من أهل البيت…

وما لم يقله المفتي عبد اللطيف دريان في وداع رئيس الجمهورية، قالته وجوه الحاضرين الذين تعاملوا معه بلياقة خجولة تفتقر الى الحماسة التي كان يلقاها سعد الحريري عندما كان يأتي للتشاور مع راعي طائفته.

وتذهب مصادر مطلعة بعيداً الى حد القول، ان في زيارة عون نوعاً من “الاستفزاز” أكثر منه نوعاً من اللياقة، ومحاولة استغباء لطائفة كبيرة أراد منها التعامل معه كحيثية “حيادية” و”أبوية” لم تميز بين أبنائها ، ولم تتورط في أي عملية الغاء أو تهميش أو تهشيم وصلت الى حد اتهام زعيمها بالكذب والتعامل معه عبر رسائل تنقلها الدراجات النارية.

وأضافت أن عون، ارتكب خطأ فاضحاً عندما جاء الى دار الافتاء مباشرة بعد تنحي الحريري الابن، وكأنه أراد أن يقول لمن يهمه الأمر ان غياب زعيم تيار “المستقبل” لا يعني نهاية العالم، وان قصر بعبدا بات مفتوحاً الآن ومهيئاً لفتح صفحات جديدة من التماهي والتعاون والمصالحات والتسويات الجديدة مع أي خليفة يمكن أن يختارونها لقيادة السفينة السنية الهائمة فوق بحر هائج.

وما فعله عون فعله سمير جعجع قبله بأيام قليلة، عندما كاد ينصب نفسه زعيماً سنياً أكثر شعبية من سعد الحريري، ثم عندما حاول أن يتخطاه من خلال الدعوة الى “التعاون مع الأخوة في تيار المستقبل”، الأمر الذي كسر كل الجسور التي كان يمكن أن تبقى قائمة بين الفريقين عشية انتخابات مفصلية يتوقف على مصيرها مستقبل الكيان اللبناني عن آخره.

وما فعله كل من عون وجعحع فعله الرئيس نجيب ميقاتي، عندما كاد ينصب نفسه أيضاً ومن دار الافتاء تحديداً مرجعية سنية بديلة متسلحاً بالحرص على دور السنة وتأثيرهم الوطني الفاعل في المعادلة السياسية اللبنانية، ورباناً قادراً على الابحار بهم نحو شاطىء الامان…

والواقع أن عون وميقاتي وجعجع تعاملوا مع الشارع السني الجريح بطريقة استفزازية، تنم عن جهل في التعامل مع المتغيرات الفجائية التي تأخذ مكانها في ظل ظروف دقيقة وحساسة، وقابلوا هذا الشارع بشهية مفتوحة بدلاً من ملاقاته بقلوب مفتوحة.

وكشف أحد المراقبين في دار الافتاء قائلاً انه رأى في زيارة عون ما يشبه “المشبوه الذي جاء يهنىء أهل الضحية بوفاتها، أو يدعوهم الى المشاركة في جنازتها”.

وأضاف أن الخطوة الذكية الوحيدة في زيارة عون تكمن في عدم اصطحاب صهره جبران باسيل، لعلمه المسبق أن مثل هذا الأمر قد لا يمر على خير بالنسبة الى رجل يتغنى في كواليسه بما يعتبره الغاءً للحريرية السياسية ويرمي على أكتافها كل أثقال الفشل والفساد والانهيارات المتلاحقة.

هذا الانطباع ، قابلته على الطرف الآخر ، تأكيدات من مصادر عدة تفيد، أن عون حاول استغلال النقمة السنية على جعجع، والسعي الى تصوير نفسه “أباً” مجرداً من أي أطماع سياسية أو انتخابية، وحيثية وطنية تحرص على التوازنات السياسية والطائفية، في محاولة منه لكسب تعاطف سني يسهم في تعويم أو إنقاذ “التيار الوطني الحر” المتراجع في شكل دراماتيكي في عدد من الدوائر، ومنع الناخب السني ، بايعاز من “حزب الله”، من التوجه انتخابياً نحو المجتمع المدني أو التيار السيادي بكل رموزه وأحزابه وحيثياته…

وسط هذه الأجواء والمعطيات ، لا بد من القول ان الصدمة التي أحدثها سعد الحريري قد فعلت فعلها وكشفت النيات والخفايا لدى الحلفاء والخصوم معاً، فهل يكتفي بعلم الفراسة أو يستبدله بعلم الفروسية، ويتقدم، ولو من بعيد، لاستنهاض قاعدته وتوجيهها حيث يجب، بدل أن يسجل على نفسه ما سجله الجنرال ميشال عون عندما ترك جنوده في الميدان وأنقذ نفسه؟.

حتى الآن، لا تزال الفرصة سانحة أمام سعد الحريري للملمة أشلاء قراره قبل فوات الأوان، وابعاد “الذئاب” التي تحوم حول تركته قبل أن يمحو الوقت آثاره، وقبل أن تنتقل بنادقه من كتف الى كتف سواء كانت كتف أخ أو خصم أو حليف في مجتمع تتقدم فيه سياسات المصالح على روابط الدم في مكان وعلى سياسات المبادىء في آخر.

شارك المقال