السنّة عائدون: لن نكرر أخطاء المسيحيين

أنطوني جعجع

لا بد أن يتوجه الناخبون السنّة وبكثافة الى صناديق الاقتراع في الخامس عشر من ايار، لأن السلوك الآخر، أي القطيعة، لن يكون الا قراراً بالانتحار الذاتي أو بالتحول الى المقاعد الخلفية في المعادلتين اللبنانية والعربية…

وسواء كانت المشاركة من باب الاقتناع أو من باب النكاية، لا يمكن للسنّة أن يعودوا الى عام ١٩٩٢، الى الخطأ القاتل الذي ارتكبه المسيحيون عندما قاطعوا الانتخابات النيابية معتقدين أن ذلك سينزع الميثاقية عن البرلمان الجديد ويحرمه من أي اعتراف اسلامي محلي أو اقليمي أو دولي.

ولم يتنبّه المسيحيون في ذلك الوقت إلى أن الميثاقية تسقط عندما يُستبعد مكوّن لبناني عن سابق تصور وتصميم لا عندما يختار هذا المكوّن الإنسحاب من تلقاء نفسه.

فما جرى بعد تلك الانتخابات، أنتج سلطة كرّست الاحتلال السوري، وقضت على أي مجال للمعارضة سواء في الشارع أو في المؤسسات أو في أي خطاب سياسي، وحوّلت الغالبية المسيحية السيادية الى مجموعة مهمّشة لا صوت لها ولا تأثير، تمثلها حيثيات تدور في الفلك السوري وتوفر له غطاءً مسيحياً بمن حضر.

ولا يختلف اثنان على أن السنّة اللبنانيين يجيدون منذ قيام لبنان الكبير، قراءة الظروف الاقليمية والمتغيّرات التي تضرب المنطقة من وقت الى آخر وبناء حساباتهم على أساس ما يصب في مصلحتهم وما يتماهى مع أهوائهم القومية والسياسية والمذهبية أو ما يعارضها.

ولا يختلف اثنان أيضاً على أن السنّة اللبنانيين يعرفون أن ما يمرون به في الوقت الحاضر يشكّل المرحلة الأخطر، وأن أي “دعسة ناقصة” ستؤدي بهم الى واحد من أمرين: اما مجموعة معزولة في الداخل، واما مجموعة يقودها تيار “فارسي الهوى” يُعيد لبنان بكل مكوّناته الى ما قبل الرابع عشر من آذار.

ويعترف الكثير من المؤرخين والمتابعين السنّة أنها المرة الأولى في تاريخ لبنان الكبير، يشعر السنّة اللبنانيون أنهم متروكون لمصير قاتم وهائمون في سفينة تائهة، ولا سيما بعد تفكك حصون سنّية كان يمثلها رواد القومية العربية في مكان، وقيادات سنّية مؤثرة كان يمثلها جمال عبد الناصر وياسر عرفات وصدام حسبن وملوك السعودية ورفيق الحريري.

وللمرة الأولى، يجد السنّة أنفسهم أمام واقع جديد يخيّرهم بين أمرين: اما الذهاب الى صناديق الاقتراع بكثافة موصوفة لانتزاع غالبية سيادية، واما الاعتكاف أو التشتّت أو التحول الى مجرد كتل ناخبة يتسابق الآخرون لتقاسمها أو وراثتها، تماماً كما حدث بعد ساعات قليلة على تعليق الرئيس سعد الحريري نشاطه السياسي.

وثمة أمر آخر يدركه السنّة تماماً، وهو أن الانسحاب أو الاعتكاف أو الكيديات أو التنازلات أو حروب الالغاء التي خاضها الموارنة من قبل، ستعني أن اتفاق الطائف سيكون عرضة للتعديل، سواء عبر السلاح أو التشريع، ويتحول الى دستور جديد لا يختلف كثيراً عن دستور الثورة الاسلامية في ايران.

وبعيداً من كل الحملات المتبادلة بين تيار “المستقبل” وسمير جعجع، يرى النافذون السنّة أن ناخبيهم لن يقدموا على “قطع أنفهم نكاية بوجههم”، بل سيركّزون على مرشحين آخرين يدورون اما في الفلك السيادي، وتحديداً في الشمال وبيروت وزحلة، واما على حيثيات مستقلة يجدون فيها أوجه شبه أو قابلية للتفاهم والتعاون في مواجهة خصم مشترك لا بد من تطويقه والحدّ من انفلاشه.

أضف الى ذلك، أن السنّة يعرفون أن الانسحاب من الانتخابات التشريعية، سيكون انسحاباً من الحظيرة الدولية – العربية التي تضغط بكل الوسائل المتاحة للحؤول دون تأجيلها أو تطييرها من جهة، والعمل لتأمين غالبية جديدة تقلب المسار التشريعي والتنفيذي والرئاسي رأساً على عقب، من جهة ثانية.

ويعرف هؤلاء أيضاً أن الهوة كبيرة بين سعد الحريري والمملكة العربية السعودية، لكنهم يعرفون أيضاً، أن هذا الخلاف يجب ألا يضع الطائفة كلها في خانة العداء مع العمق العربي السنّي، وأن عليهم التصرف كطائفة تعرف كيف تفصل بين التباينات الموقتة التي لا بد من تجاوزها يوماً والأخطاء القاتلة التي يمكن أن تنتج أمراً واقعاً لا يمكن تغييره بسهولة أو بسرعة.

وانطلاقاً من هذا الواقع يمكن تفسير الدوافع التي تحرك بعض الماكينات الانتخابية السنّية في اتجاه دار الافتاء، وتعمل على رصّ الصفوف استعداداً لليوم الكبير الذي لا يبدو أن سعد الحريري سيكون بعيداً عنه ولو من خلف الكواليس.

ويهمس مسؤول سنّي مخضرم أن الحريري، لا يمكن، على الرغم من خيباته ومشاكله المالية والسياسية والشعبية والعائلية، أن يختار المنفى الطوعي، وأن ينسحب تماماً من المعادلة اللبنانية والاقليمية والدولية، مشيراً الى أن الرجل بات جزءاً من الحرب على الهيمنة الايرانية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وأن تنحّيه في وقت يحتاج العالم الحر الى قوته، لن يمر من دون مزيد من التداعيات والأثمان الباهظة.

وأضاف: “لا يمكن للحريري أن يقيم في دولة الامارات العربية متفرجاً على الصواريخ الباليستية الحوثية وهي تضرب دبي وأبوظبي، من دون أن يساهم في الدفاع عنها ولو من متاريس بيروت…”.

وختم: “انتظروا السنّة في اللحظة الأخيرة، فهم لن يفعلوا ما فعله المسيحيون عام ١٩٩٢، ولن يسمحوا لحزب الله أن يفعل في انتخابات بيروت ما لم يفعله في انتخابات بغداد، ولن يسلّموه لبنان في وقت يجهد العرب والغرب لتدويل الملف اللبناني، وتحصين الأمن الخليجي، واعادة ايران الى حجمها الطبيعي. انها اللحظة التي تشبه لحظة الرابع عشر من آذار، مع فارق وحيد يتمثل في أنها ليست لحظة الانتقام لرفيق الحريري الشهيد هذه المرة بل لحظة انقاذ المكوّن السنّي الجريح”.

شارك المقال