لبنان: الكيديّة والتخلف وغياب رجال الدولة!

رامي الريّس

سلسلة الانهيارات المتتالية التي يعيشها لبنان راهناً كفيلة بتحويله إلى ما يماثل دول العالم الثالث المتخلفة على مختلف المستويات، فتردّي الخدمات العامة وصل إلى كل المرافق، وها هم القضاة يعتكفون تحذيريّاً للمطالبة بأبسط مقوّمات العمل المكتبي كالتدفئة والطاقة والقرطاسيّة!

لقد بات واضحاً أيضاً أن الأمراض التي يعاني منها الجسم القضائي تتجاوز بأضعاف تلك المتطلبات البديهيّة والبسيطة التي يفترض أن تتوفر دون الحاجة إلى الاعتكاف أو تعطيل الأعمال القضائيّة التي قلما كانت تسير وفق المعايير المطلوبة بمعزل عن الآفات الأساسيّة التي تعاني منها والمتمثلة بالولاءات السياسيّة للقضاة.

صحيحٌ أن ثمّة تدخلات سياسيّة في القضاء وهذه ظاهرة تاريخيّة مؤسفة وهي نتيجة طبيعيّة لعدم قيام السلطة القضائيّة المستقلة بتواطؤ مشترك من السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، الأمر الذي يجعل قيام الدولة في لبنان مسألة في غاية الصعوبة. ولكن الصحيح أيضاً أن ثمّة قضاة يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا ألعوبة بيد السياسيين يحركونهم وفق إرادتهم ووفق مشيئتهم فتراهم يسخّرون الأدوات القضائيّة والقانونيّة المتوفرة بين أيديهم بحكم مواقعهم لإتخاذ خطوات تتماشى مع المصالح السياسيّة لتلك الأطراف في مصادفات زمنيّة فاقعة وواضحة.

في المبدأ، لا يفترض أن يكون أحد فوق القانون مهما علا شأنه أو موقعه في الدولة اللبنانيّة على ألا تكون الملاحقات إنتقاميّة أو عشوائيّة أو كيديّة. لا بل من المفترض محاسبة الذين تسببوا بالانهيار المالي والاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد، ومسبباته ليست تقنيّة أو إقتصاديّة بحتة. ثمّة عوامل سياسيّة لا يمكن إنكارها أو القفز فوقها في إطار أي مراجعة نقديّة لمسببات الواقع المزري الذي بات يعيشه لبنان، وهو مرشح لمزيد من التدهور بسبب سياسات العبثيّة التي يقود البعض بها البلاد والعباد.

ثمّة قوى سياسيّة أجهضت كل المحاولات الإصلاحيّة التي أطلقت منذ ما قبل إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقد نُفذّت بصدق وإخلاص من قبل أدوات الممانعة في لبنان بدءاً بالرئيس السابق إميل لحود الذي صوّر نفسه بطلاً حريصاً على المال العام بينما كان، عمليّاً، يُفرّغ حقده وحقد حلفائه في دمشق على الرئيس الحريري، فأنهى مفاعيل مؤتمرات الدعم للبنان وفرّغها من مضمونها، وعطّل كل الجهود المبذولة في هذا الإطار.

وتواصلت سياسة الحقد إيّاها من الأدوات ذاتهم في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان الذي حاول جاهداً إطلاق الإصلاحات، إلا أن مفاعيل إتفاق الدوحة وإنتزاع بعض القوى السياسيّة لقدرة التعطيل دمرّت كل الفرص المتاحة وحولتها إلى أزمات،. هكذا كانت السياسات المتبعة من تيار العبثيّة. وغنيٌ عن القول أن سياسات الحقد تواصلت، فهل يمكن نسيان تلك اللحظة البشعة التي قدّم فيها الوزراء إستقالاتهم من الرابية أثناء إجتماع الرئيس سعد الحريري مع الرئيس الأميركي يومذاك باراك أوباما في البيت الأبيض؟ الحقد الدفين يخرج نفسه إلى العلن مجدداً.

ولم تشفع التسوية الرئاسيّة التي أوصلت العماد ميشال عون إلى بعبدا بعد سنوات طويلة من الانتظار بأن تخرج البلاد من الأزمات المتتالية، بل عمّقتها وأججتها فإنفجرت في وجه اللبنانيين كأسوأ أزمة إقتصاديّة منذ نحو 150 سنة وفق توصيف البنك الدولي. لقد عطّل التيار ذاته، مدعوماً من الأطراف الممسكة بالبلاد، كل جهود النهوض المنتظرة.

واليوم، تتواصل السياسات العبثيّة بعيداً عن تطبيق أي سياسات عاقلة ومدروسة تتيح إخراج لبنان من مأزقه العميق وتسمح بإعادة بناء إقتصاده المدمر وفق مقاربات جديدة لا تماثل المقاربات القديمة التي وسعت الفجوة الطبقيّة بين اللبنانيين وأعفت الدولة من وظيفتها الإجتماعيّة. هذه حاجة ماسّة لا مفر منها، ولكن أين رجال الدولة الذين سيقومون بتطبيقها؟

شارك المقال