عن احياء مميت!

علي نون
علي نون

تأخذ تطورات الحالة الأوكرانية وتفاصيل الحراك الروسي بشأنها، كل إهتمام العالم وترقبه… وهو اهتمام يقارب حدّ الرعب من انفلات الميدان وعودة أوروبا الى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية.

وذلك أمر ما كان أحد ليتصوره بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك المنظومة السوفياتية الى رقع سيادية تضم الواحدة منها كياناً وطنياً عائداً الى الضوء من ظلمة الدمج “الأممي” الذي أنتجته خارطة ما بعد انتهاء تلك الحرب الكبرى في العام 1945، حينها قبض الديكتاتور السوفياتي (الاسوأ من نوعه في التاريخ)، ثمن مشاركته في القضاء على النازي وتحرير الدول التي أخضعها بالنار والدمار… وهي في جملتها كانت عند حدود الاتحاد السوفياتي نفسه وليس بعيداً عنها أبداً. ضبّها تحت جناحيه وأقفل عليها الأبواب مانعاً عنها الضوء والحرية والتقدم تماماً مثلما فعل مع شعوب الاتحاد السوفياتي والكيانات القومية المتعددة التي من ضمنه.

لاحقاً تطور مفهوم الرعاية والوصاية عند ساكن الكرملين ومن تعاقب على السكن فيه وصارت “المنظومة الاشتراكية” ممتدة على مساحات جغرافية أوسع من الفضاء الأوروبي الشرقي وصولاً الى كوبا غرباً وجنوب آسيا شرقاً وما بينهما من أنظمة قاربت المثال الاشتراكي من دون تبنيه كاملاً في افريقيا والشرق الاوسط بما عناه ذلك من تجارب بائسة ومريرة لا تزال أثمانها تدفع الى اليوم!

عودة فلاديمير بوتين الى مناخات تلك المرحلة الآفلة تعني محاولة عقيمة لاحياء ما مات واندثر، بقدر ما تدل على ذات مأزومة بتضخم أناها وامتلاء تلك الأنا بنوازع هجينة تدمج الإيمان باصطفاء أو اختيار الذات للعب دور تاريخي قدري، مع الشطارة السياسية قصيرة النظر التي يفترض صاحبها أن الأوان حان لتصحيح ما يعتبره “أكبر خطأ جيواستراتيجي في القرن العشرين”، ويقصد طبعاً انهيار المنظومة السوفياتية من دون اطلاق رصاصة واحدة!

وذلك عصب المقصود من مقدمة هذا الشرح والتحليل: يقارب بوتين المحاولة الاحيائية من زوايا أمنية تطال المدى الحيوي للأمن الروسي ويخترع أعذاراً من النوع ذاته لتبرير غايته الأولى لاعادة شيخ الامبراطورية الى صباه! أو إعادة احياء نظام قطبي مثلث الأضلاع (مع الصين) بما يكسر الأحادية الأميركية ويعيد تظهير روسيا كقوة عظمى أولى في أوروبا وثانية أو ثالثة في العالم كله.

يدبّ بهدوء وتأن في بداية المسار ويدعّم سلطته في الداخل الروسي و”يؤبدها” ثم يبدأ الاستطراد القريب مع الدول التي استقلت وسرحت بعيداً عن “المركز”، ثم يشرع في استخدام بقايا المرحلة السابقة لبناء الراهن والمستقبل: يتذكر “حقوق” وحيثيات الأقوام الروسية المتداخلة مع الأقوام الأخرى في جورجيا ثم في القرم ثم في شرق أوكرانيا قبل أن يبدأ مرحلة الجهر الفصيح بنواياه الإحيائية المدمرة. وعلى عادة الرساليين الطغاة يخترع أعداء خارجيين ويروح يشحذ الهمم الداخلية لمواجهتهم، ويلهج بمنطق الخوف الذاتي لتبرير ارهابه للغير، وينسج روايات عن التآمر من قبل “الأعداء” لتغطية نواياه التآمرية ضد مفهوم ونظام السيادة الوطنية عند دول الجوار التي خرجت من الأسر السوفياتي!

وهذه محنة كبرى لا يستوعب أبعادها ذلك النوع من الطغاة: لو كان المثال الروسي أو السوفياتي (الاشتراكي الستاليني) ناجعاً أو ناجحاً أو يمكن الاعتداد به لما طارت أصلاً وفصلاً، شعوب تلك الكيانات والدول بعيداً عن القفص عند أول فتحة فيه، ولما ارتأت بعد خمسة عقود من “السعادة” تحت ظلال الأخ الأكبر في الكرملين أنها شبعت سعادة ورفاهاً واكتفت، وتريد شيئاً من “العبودية” التي يوفرها نظام السوق والديموقراطية الغربية تحديداً، وأفظع هواجسها اليوم أن يعود الزمن الى الوراء وأن يحاول القيصر، أو الرفيق الأمين العام، أو القائد الأممي الفذ ترميم القفص واعادة من طار منه، اليه.

انهار الاتحاد السوفياتي من داخله وليس نتيجة مواجهة عظمى، وذلك كان حتمياً في عالم الحداثة والفضاءات المفتوحة ولم يكن “أكبر خطأً استراتيجي في القرن العشرين” بل أكبر تصحيح لمسار التاريخ والبشرية منذ النازي الألماني والفاشي الايطالي. ومعضلة بوتين الأولى أنه أداة راهنة أو حديثة في عالم قديم، يأتي من خارج الزمن العام ويعيش في زمنه الخاص ويرى ما يريد عقله أن يراه وليس ما هو قائم في مدى نظر كل آخر. يعتمد تكتيكات رجل الأمن في فضاءات أوسع مدى من المنظمة الحزبية أو جهاز الاستخبارات ويفترض أن ذلك سينجح، تماماً مثلما نجح على مدى سبعين عاماً في روسيا والمنظومة السوفياتية، وهذا يعني في حكمه وعرفه أن الانهيار تم في أواخر تسعينيات القرن العشرين لأن “الأمن” تراخى، والهيبة انكسرت، وليس لأن النظرية من أساسها كانت ولا تزال على الضد من فطرة البشر لأن روادها قرروا أن يغيروا طبائع الخلق الأولى الخاصة بثلاثية الحرية والتملك والايمان الديني، أي الحيز الخاص بكل ضروبه ومعانيه.

ما يغيظ رجل الاستخبارات الذي صار زعيماً لواحدة من أقوى دول الأرض هو أن ينجح من اختار الطريق الآخر، وأن ينكسر هو مرة أخرى مثلما انكسر مثاله الأبوي والنظامي مرتين في حياته: مرة بخسارة والده عندما كان صغيراً في السن ومرة بخسارة رب عمله بانهيار النظام برمته، ولا شيء يقدمه لتلافي ذلك الضنى والضيم سوى ما يعرفه وما تربى عليه: العنف والقسر والقوة والفرض والاكراه، وأسوأ ما في ذلك هو “اقتناعه” التام بصوابية رؤاه و”حقّه” في التصرف وفق تلك الرؤى.

… كأنه يتماثل مع الولي في طهران: تكتيكات متشابهة باستراتيجيات وعناوين مختلفة. ذاك يصدر عن وعي ديني وقومي، وهذا يصدر عن وعي أمني وقومي. ذاك يريد استعادة أمجاد امبراطورية قومية بغطاء الهي رباني، وهذا يريد احياء عظام امبراطورية قومية بغطاء أمني. والاثنان الاحيائيان لا يقدمان للعالم والجوار القريب سوى الدمار والفناء… والوعد الأكيد بالمزيد منهما!

شارك المقال