تحدّي مشروع “الحزب” يكون داخلياً أو لا يكون

عبدالوهاب بدرخان

كلّ الأحداث تترابط، صغيرة ً كانت أو كبيرة، للدلالة إلى أن الانهيار مستمر، وأن طرفاً واحداً هو “حزب الله” يستفيد منه، أو يظن ذلك. فهو شريكٌ فاعلٌ في الفساد الذي نخر أساسات السلطة، ورائدٌ في ادّعاء مكافحة الفساد. وظّف تضعضع النظام المصرفي ليقيم نظامه الخاص. صنع لنفسه اقتصاداً موازياً يتغذّى من كل ما هو مدعوم ومهرَّب بمصادرته أو بتوجيهه إلى سوريا. سدّ النقص في تمويله الإيراني بالتموّل المحلي. يعتبر أن كل خسارة للبلد، بهجرة الكفاءات والأدمغة وبتراجع التعليم والطبابة والثقافة والفنون، هي مكسب له. كلّما تعاظمت عوارض الضعف في مختلف المجالات كلّما حصل على نقاط قوّة فائضة>

كان مكسبه الأهم أنه استطاع استثمار تحالفه مع “التيار العوني” إلى أقصى حدّ في مشروع سيطرته على لبنان. حقق معادلة “ربح – ربح” في حالتَيْ صعود “التيار” وسقوطه، وجعله أداة طيّعة في إدارة الشأن المسيحي. برهن “الحزب” أنه من بين القوى السياسية كافةً كان الأكثر معرفةً بشخصية الجنرال ميشال عون ومزاجه، والأكثر مهارةً في توجيهها، لذا أصرّ على التخيير بين الفراغ والفوضى وبين عون رئيساً. يعرفه حتى أكثر من العونيين أنفسهم الذين رفضوا كل التحذيرات وأنكروا كلّ الوقائع حتى الدموية منها لئلا تهتزّ قناعاتهم، بل احتاجوا إلى هذه الأزمة العاتية التي دخلت بيوتهم وكلّ بيت لبناني، كي يجهروا بخيبة الأمل من قائدهم و”تيّاره”، ومن صهره جبران باسيل الذي خبر “الحزب” باكراً حقيقة طموحاته وانتهازيّته ومدى التماهي بينه وبين عمّه.

استخدم “الحزب” ما عُرف بـ “التسوية الرئاسية” ليتحكّم عبرها بالحكومة وتشكيلها وخياراتها وطرائق عملها وبمنعها من إقرار إصلاحات مشروع “سيدر” التي لو أُنجز القليل منها لكانت جنّبت البلد الوقوع في هذه الأزمة. وبالنسبة إلى “الحزب” كانت تلك “التسوية” وسيلة لدفع الدولة إلى تداعي الدولة، تعزيزاً لدويلته. جاءت “ثورة 17 تشرين” كحدث وحيد من خارج حساباته ومخططاته لكنه تمكّن من إجهاض فاعليتها، سواء بالقمع والترهيب أو بإشهار المذهبية والتخويف من حرب أهلية، ومن ثمَّ بالمشاركة في التجويع وإضعاف المجتمع. بعدئذٍ، عادت الأحداث تترابط من عجز الحكومة الحالية – حكومته المشتركة مع باسيل – عن شقّ مسار انقاذي إلى استعصاء تشكيل حكومة بديلة، ومن عجز المجلس النيابي عن سنّ أي تشريع في اتجاه معالجة جدّية للأزمة إلى فوضى إدارة الوباء وقايةً ولقاحاتٍ، ومن جريمة تفجير المرفأ إلى جريمة زعزعة القضاء إلى جريمة “رمّان الكبتاغون”…

في كل المحطّات كان “الحزب” ولا يزال فاعلاً مباشراً أو استباقياً محرّضاً ومحرّكاً، وجاهزاً دائماً للعب الأدوار أو لجعل آخرين يلعبونها لمصلحته. حاول كثيراً تمويه دوره في تعطيل تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري، وساعده في ذلك تعنت عون وباسيل، إلا أنه لا يريد حكومة تعتمد على إصلاحات صندوق النقد الدولي والمبادرة الفرنسية، كونها تعترض مشروعه. ومن أجل هذا المشروع لم يتردّد في التلاعب حتى بحدود الدولة اللبنانية، متطلّعاً إلى “شرعنة” أميركية – اسرائيلية لهيمنته على البلد، ولا يتعلّق الأمر بالحدود البحرية شمالاً وجنوباً بل خصوصاً بنموذج الحدود البريّة المفتوحة الذي بناه مع النظام السوري وأضفى عليه فتوى العقوبات التي تبرّر تهريب المخدّرات.

كثيرون في لبنان والخليج بدَوْا متفاجئين ومستغربين واقعة “رمّان الكبتاغون”، كذلك العالم برغم أنه صنّف لبنان منذ زمن مصدراً للتهريب، وصنّف “حزب الله” متورّطاً كما أدرجه في قائمة الشبكات الناشطة في أفريقيا وعلى المثلث الحدودي بين كولومبيا والإكوادور وبيرو. ومنذ زمنٍ أيضاً وصفت التقارير كيف أن الحدود بين لبنان وسوريا صارت ممراً سالكاً بلا عوائق لكل أنواع البضائع، ومنها تلك المدعومة بأموال المودعين من أغذية ووقود، أو غير المدعومة، لكن خصوصاً المخدّرات والممنوعات شتّى. تتمتّع العصابات السورية واللبنانية بحماية تشرف عليها ما تُسمّى القوى النافذة في البلدَين، بتواطؤ مع أفراد من قوى السلطة اللبنانية، ضالعين أو مرتشين، ليتمّ العمل بسلاسة وبإجراءات “شبه شرعية”. لا يمكن أن يكون الوضع أكثر وضوحاً ورسوخاً.

في ذلك الجزء المتداخل من الأراضي اللبنانية والسورية تتجلّى الصيغة الملالية – الأسدية للسلطة، ولم يعد هناك مجال لكسرها إلا بكسر النظامين اللذين يرعيانها. من شروط أي اصلاح في لبنان أن تخضع الحدود لسلطة الدولة، لكن هذه الدولة أصبحت بدورها مخترقة ومستتبعة. حتى العقوبات الأميركية، والآن الفرنسية فالأوروبية، المرشحة لأن تشمل عشرات الأشخاص من الطغمة الحاكمة، المتهمين بعرقلة تشكيل الحكومة والضالعين في الفساد، حتى هذه العقوبات يحولّها “حزب الله” لمصلحته ويبيع ضحاياها أوهاماً إذ يطرح نفسه قُطباً داخلياً – اقليمياً لحمايتهم.

لا شك أن الاغتيالات وإرهاب السلاح غير الشرعي واختراق الطوائف والمذاهب سمحت لـ “الحزب” بإقامة دويلته، أو بالأحرى دولته، أمام أبصار الجميع في الداخل والخارج. لكن مشروعه سيبقى أمام تحدّي الداخل، فلن يستقيم إلا بمواصلة عزل لبنان عن العرب والعالم، ولن يستمرّ إلا بفرض القوة القاهرة التي لا يمكنها أن تدوم. لكن علّة العلل أن قوى الداخل تبدو منقسمة ومجرّدة تماماً من إمكانات التحرّك، على رغم كلّ ما يوحّد بينها، وهو كثير.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً