ما بين انجازات الكنيسة المارونية واخفاقات “حزب الله”

جورج حايك
جورج حايك

ما يفكّر به بعض المنظرين في إطار مشروع “حزب الله” خطير، بل يتجاوز خطر سلاحه إلى رؤيته للبنان وتاريخه ودوره، ضارباً عرض الحائط بمفهومه الحضاري التعددي، السيّد، الحر والمستقل، وعلاقاته الدولية، واقتصاده الحر، ليكون مجرد ولاية في الامبراطورية الايرانية لا كيان له ولا خصوصية ولا أي قرار حر.

تلك هي خلفية ما يختلج في وجدان الصحافي ابراهيم الأمين الذي قال بالحرف الواحد: “هناك اشكالية أهم من اشكالية سلاح حزب الله في لبنان وهي اشكالية اسمها بكركي”. وأضاف: “برأيي مشكلة لبنان هي الكنيسة المارونية”.

هذا الكلام النزق والمسيء الى بكركي لم يمر مرور الكرام، إذ تداعى عدد من المحامين إلى مقاضاة الأمين بسبب تطاوله على الكنيسة المارونية، وطالبوا بإحالته على القضاء المختص وتوقيفه ومحاكمته.

لكن الموضوع ليس مجرد موقف للصحافي الأمين إنما هو تراكم لفكر غير بريء تبلور في محطات عدة عبر التاريخ يمثله اليوم “حزب الله”، ويعيدنا إلى عشية اعلان دولة لبنان الكبير عام 2020، حين كان في الواجهة آنذاك البطريرك الياس الحويك، وكانت الخيارات عديدة أمامه لاختيار لبنان الذي يلائم الطائفة المارونية من المرجعية الفرنسية الحاكمة آنذاك، فاختار الحويك لبنان بمساحة تضم أقليات أخرى إلى جانب الأقلية المارونية الأكثر عدداً كالأرثوذكسية والسنيّة والشيعية والدرزية. فأي صاحب فكر منطقي وعلمي يمكن أن يعتبر هذا الخيار خطيئة أصلية ارتكبتها الكنيسة المارونية؟

أصرّ البطريرك الماروني الياس الحويك، بعناد، على حدود “لبنان الكبير” كما أعلنها الجنرال هنري غورو من مقرّ اقامته في “قصر الصنوبر” يوم الأول من أيلول 1920، لكن ما لا يعلمه كثيرون أنه بعد سنة، بدّل الجنرال غورو موقفه وحاول تعديل حدود الوطن الجديد بناء على تصور مساعده روبير دو كيه.

يروي المفكّر اللبناني يوسف السودا في كتابه “في سبيل الاستقلال”، أنّه زار الجنرال غورو في عاليه في 8 آب 1921، ونقل اليه هواجس اللبنانيين حول إعادة ضمّ لبنان الى سوريا وموضوع “الفديراسيون”، فأجابه الجنرال غورو: “لا أخفي عنك أني رأيت، بعد الاختبار، ومنذ اعلان لبنان الكبير في أيلول الماضي، أنّ هناك مسائل تستدعي اعادة النظر. وبنتيجة البحث والمشاورات، رأيت أنّه يمكن اللجوء الى شكل فديراسيون بين سوريا ولبنان. وقد وضعت مشروعاً للفديراسيون… وهناك بعض الشخصيات اللبنانية تؤيّد هذا المشروع”.

أقلق تصريح غورو يوسف السودا، فتباحث الأمر “الخطير” مع عدد من الشخصيات اللبنانية، وعلى رأسهم داود عمون، أول رئيس لمجلس النواب في لبنان، والمطارنة عبدالله الخوري، غناطيوس مبارك وأوغسطين البستاني، واتفقوا على أن يذهب السودا الى الديمان ويبحث الموضوع مع البطريرك الحويك.

في 23 أيلول 1921 توجّه السودا الى الديمان، وأطلع البطريرك على المخطط الفرنسي (السرّي)، فاستبقاه غبطته على العشاء، بعدما أخبره أنّ الجنرال غورو قادم لزيارته تلك الليلة.

في نهاية العشاء ألقى البطريرك خطاباً نارياً قال فيه: “اذا مُسّت حفنة من تراب لبنان فأنا خلال أربع وعشرين ساعة سأعلنها ثورة في البلاد…”. أغضب هذا الكلام العالي النبرة الجنرال كثيراً. ويقول السودا: “كأنّ تياراً كهربائياً مسّ الجنرال عند سماعه هذه الجملة، فانتصب منتفضاً، وزعق والزبد يرغو من فمه قائلاً: مفاجأة، مفاجأة… يا مونسنيور، أتهدّدني بالثورة؟ وفي البيت الذي نعتبره بيت فرنسا في لبنان؟ أنا الذي أعلنت لبنان الكبير. أنا الذي أمّنت لكم الاستقلال والحدود الطبيعية من الناقورة الى النهر الكبير… وتهدّدني بالثورة؟”.

ويكمل يوسف السودا روايته فيكتب: “ثم سكن روعه قليلاً فقال: ولكن يعزّيني أنّ هذه الأفكار ليست أفكاركم، بل أفكار مسيو سودا الجالس بقربكم. لقد حدّثت مسيو سودا عن مشروع الفديراسيون، لكني قلت له إنّ المشروع لن يُنفّذ الّا اذا وافق اللبنانيون. ولغبطتكم الرأي الأول. وما دام اللبنانيون غير موافقين فلن تنشأ الفديراسيون”.

هذا اللبنان الذي ضمّ مسيحيين ومسلمين بكامل ارادة رأس الكنيسة المارونية، رفضه معظم المسلمين في لبنان في البداية، فوقعت اضطرابات في مناطق كثيرة رفض أهلها الانضمام الى الدولة الجديدة، وطالبوا بالوحدة مع سوريا!. شيعياً، انعقد في وادي الحجير عام 1920 مؤتمر جمع وجهاء الشيعة وعلماءهم وثوّارهم، تأييداً للملك فيصل في دمشق. وفي طرابلس، تجلّى الرفض السنّي القاطع للبنان الكبير، في كلّ مراحله، واتخذ طابع الإضراب والعصيان المدني. فهل كانت خطيئة الكنيسة المارونية المطالبة بكيان لبناني تعددي مستقل؟

ويروي فؤاد أفرام البستاني، المؤرّخ والرئيس الأوّل للجامعة اللبنانية، أنّ رجل دولة عثمانياً التقى البطريرك الماروني الياس الحويك عام 1919 في باريس، أثناء سعيه لدى السلطات الفرنسية الى استرجاع المناطق المسلوخة من لبنان، فنصحه بعدم تكبير لبنان، فيصبح المسلمون أكثرية ويحوّلونه إلى دولة إسلامية أوتوقراطية، ويستظلّون برعاية دولة إسلامية كبرى، وتنبّأ بأنّه سيندم قبل مرور 50 سنة. هذا السياسي العثماني، لم يكن سوى الأديب والرحالة اللبناني المسيحي سليمان البستاني وكان عضواً في “مجلس المبعوثان” العثماني، فهل افتقد البطريرك الماروني آنذاك بصيرته وارتكب “خطيئة” سيندم عليها المسيحيون نتيجة انحراف “حزب الله” عن لبنانيته وضربه فكرة التعايش لمصلحة مشروع ايران؟

هل كان على الكنيسة المارونية الاكتفاء بلبنان الصغير حفاظاً على هويته المسيحية، من دون المغامرة بتركيب لبنان الكبير، في موازنة دقيقة بين المنافع الاقتصادية المرتجاة من السهول والسواحل الملحقة بلبنان، وبين المخاطر الديموغرافية والسياسية كما يحصل اليوم مع جماعة “حزب الله” المسلّحة التي تهدد كل يوم وآخر بالعددية والأكثرية الطائفية والسلاح لإخضاع الآخرين لمشروعها؟

فهم السنّة منذ الاستقلال عام 1943 أهمية لبنان الكبير مع الرئيس رياض الصلح، وبات لهم ضرورة بل حاجة ماسة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري ابتداء من عام 1993، فذهبوا أبعد من ذلك ورفعوا شعار “لبنان أولاً”، والتقوا في الصميم مع الكنيسة المارونية وأنصفوا البطريرك الحويك بعد 90 عاماً على غيابه، ولكن لقد كُتِبَ على الكنيسة المارونية أن تتحمّل “صليب” تجارب مجموعة طائفية ومذهبية لا تشبه مفهوم لبنان الدولة السيّدة المستقلة بقرارها ومؤسساتها وقضائها، وهنا الخطيئة التي يرتكبها “حزب الله”. لقد واجهه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي المتحدر من سلالة البطاركة العظماء، وأعادنا بخطابه إلى البطريرك الحويك: “نريد تطبيق الدستور، ولبنان الطائف وطن نهائي للجميع. نريد دولة ينتسب إليها المسيحي والمسلم كمواطنين. نطالب بالحياد ومؤتمر دولي من أجل لبنان”.

يتعامل “حزب الله”، بواسطة مسؤوليه أو مقربين منه، مع مطلب الحياد بخفة أو بالتهديد. يردّ أمينه العام حسن نصرالله أن كلام البطريرك مشروع حرب، ثم يوضح الشيخ صادق النابلسي أن الحياد مطروح لتفجير البلد لأنه يعني الحماية والوصاية. بالطبع سيرفض الحياد من يرسل ميليشياته، بأمر من إيران، لتقاتل من سوريا إلى اليمن مروراً بالعراق. وبالطبع سيعلمنا الشيخ أحمد قبلان “أن الحياد خيانة والمؤتمر الدولي إذا كان بنسخة سايكس بيكو فنحن ضده”، وهو سبق أن رفض دولة لبنان الكبير العام 1920. هذا يؤكد أنهم ضد الكيان اللبناني أصلاً إلا إذا كان لخدمتهم. اما استغلال مرجعية “سايكس بيكو”، فتثبت المقولة البعثية أن “لبنان كيان مصطنع”. وتعني أنهم مع “هدم الحدود المصطنعة” بين سوريا ولبنان وصولاً إلى إيران!.

برأي ابراهيم الأمين أن مشكلة لبنان هي الكنيسة المارونية لأنها تجرأت وانتقدت مشروع حزب “ديني” يعتبر أن مهمته نشر سلطة الولي الفقيه في “جمهورية إسلامية عالمية” ليس لبنان إلاّ جزءاً صغيراً منها.

مشكلة الأمين و”حزب الله” مع الكنيسة المارونية اليوم لأنها تعي أن تحالف الفساد والميليشيا يهدد الدولة والكيان معاً. الدولة يتآكلها الهدر والسرقة والكيان يتعرض لأكبر تحدٍ بالقضم والاستتباع على يد ميليشيا مذهبية تأتمر بالخارج!.

الكنيسة المارونية تُدرك أن “حزب الله” يعيش حالة إنكار عن سابق تصوّر وتصميم، بأن أكثرية الشعب اللبناني بات لسان حالها “بيروت حرّة حرّة وايران برا برا”، لذلك يحاول البطريرك الراعي بعظاته ومجلس المطارنة الموارنة ببياناته، رفع النبرة من أجل التصدي لمشروع زوال لبنان الكبير وإنقاذه قبل فوات الأوان.

انقاذ “لبنان الكبير” يعني انقاذ انجازاته أي أولاً، ولادة أول كيان دستوري معترف به عربيّاً ودوليّاً يُثبِّتُ الوجود اللبناني المستقل والحرّ والآمن على كامل الأرض اللبنانيّة، وفيه يمارس اللبنانيّون الشراكة المتساوية سياسيّاً ووطنيّاً. ثانياً، تأسيس أوّل صيغة تعايش مسيحيّ – إسلاميّ خارجَ “الخلافة الإسلاميّة” وبرئاسة مسيحيّ. ثالثاً، إرساء أوّل نظام ديموقراطي برلماني ليبرالي في الشرق. رابعاً، توفير الحريات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة الفرديّة والجماعية. خامساً، بروز هذا الكيان واحة علم وثقافة ورقي وحداثة.

في المقابل، قدّم مشروع “حزب الله” الاخفاقات التالية: أولاً، نقص في الولاء الوطني، وربط الانتماء إلى لبنان بامتلاك ِالدولة. ثانياً، رهن الشراكة الميثاقيّة تدريجاً بالعدد لا بالتعدديّة، وبالسلاح لا بالشرعيّة. ثالثاً، العمل على تغيير النظام والصيغة، والاستعانة دوريّاً بقوى مسلَّحة خارجيّة، والالتحاق بمشاريعَ إقليميّة مناقضة للمشروعَ اللبنانيّ. رابعاً، إنشاء دويلات كاملة البنى التحتيّة والعسكريّة في موازاة الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها، وخلق أنماط حياة مناقضة للتقاليد اللبنانية. خامساً، تعريض أجيال لبنان دوريّاً لامتحانات الدم والاستشهاد. سادساً، الانقلاب على علّة تكوين لبنان ودوره ورسالته.

هذه النكباتُ والإعاقات زعزعت الايمان بوحدة لبنان ما يَستوجب التقويم واستخلاص العبر الجريئة.

لا تملك الكنيسة المارونية مشروعاً لإعادة النظر بلبنان الكبير والعودة إلى لبنان الصغير، وهي تبدي امتعاضاً كبيراً من الاستقواء بالسلاح وجرّ البلد ومكوّناته كافة إلى مشاريع حروب لا تنتهي وإلى محاولات تغيير الهوية وضعف الانتماء الى لبنان واعتبار الولاء لدول إقليمية أولوية على الولاء لبلد الأرز. ويعي البطريرك الراعي أن الرهان على لبنان الكبير، بدأت تحوم حوله علامات استفهام، ليس لأن مشروع البطريرك الحويّك فشل، بل لأن الرهان على لبننة مشروع “حزب الله” قد فشل. الأمر الذي يجعل عامل الاطمئنان مفقوداً بين اللبنانيين، ويعزّز القلق على المستقبل في ظل السلاح خارج الدولة!

شارك المقال