في مبدأ العدوان وملحقاته

علي نون
علي نون

العدوان الايراني الأخير على منشآت وأهداف مدنية سعودية بأدوات وعناوين حوثية، يتماشى مع أداء طهران الخارجي المعروف والمألوف والذي يمكنها في كل مرة من تنفيذ ما تشاء من دون تحمل المسؤولية المباشرة!

الجماعة الحوثية في اليمن صارت على ما يبدو الفصيل الصاروخي الأبرز في تركيبة الحرس الثوري الايراني، والذراع الأولى في استهداف دول الخليج العربي، والمنصة التي تقف عليها طهران لـ”تبث” منها وعبرها رسائلها العاجلة الى الجهة المقصودة أكانت هذه قريبة مثل المملكة العربية السعودية أو بعيدة مثل واشنطن أو وسطية مثل طاولة المفاوضات في فيينا!

ليست مصلحة اليمن أو شعبه المبتلي بالفقر والعوز وضمور شؤون العيش ومتطلباته، هي المحرك الأول للماكينة الحوثية، مثلما يتبدى مرة تلو مرة… هذا سياق عام يقر به معظم المراقبين والمعنيين من قريب أو بعيد بما يحصل انطلاقاً من طبيعة العلاقة الزبائنية التي تربط الجماعة بالأجندة الايرانية والشبيهة الى حد بعيد بعلاقة “حزب الله” في لبنان بتلك الأجندة.

الطرفان يضعان مصلحة ايران قبل مصلحة بلادهماـ وينفذان ما يتلاءم مع أهدافها ومتطلباتها قبل أي معطى آخر: فعلها ويفعلها حزبها في لبنان منذ سنوات طويلة وبما أوصل البلد الى سلسلة مآزق وكوارث غير مسبوقة في تاريخه. وتفعل ذلك الآن وقبل الآن الجماعة الحوثية في اليمن. والطرفان لا يخجلان ولا يتواضعان بل العكس تماماً من ذلك يلهجان بخطاب واحد عنوانه التشاوف بالانتماء الى محور “الولي الفقيه” ويعدان بالمزيد من “الانتصارات” و”الانجازات” في كل ساحة من ساحاته.

لكن حتى تحت هذا السقف وليس فوقه، تبدو الاعتداءات الصاروخية الأخيرة على الأعيان المدنية السعودية نافرة استثنائياً وغير معقولة لأنها أتت مباشرة غداة توجيه الدعوة الخليجية العامة الى أطراف النزاع اليمني بما فيها الجماعة الحوثية، الى الحوار والتفاوض في الرياض أواخر الشهر الجاري بما يعنيه ذلك من تأكيد إرادة التفتيش عن حل سلمي للنزاع… أي أن الحوثيين “يردون” على تلك الدعوة الى الحوار بالنار، أو بالأحرى يتولون من دون أي حرج، تغطية رفض طهران تلك الدعوة لاعتبارات تتصل بها وليس بأهل اليمن ولا بمعاناتهم الفظيعة. والجماعة الحوثية في ذلك، تتماهى تماماً مع تلك الاعتبارات وتنصاع الى صاحب القرار الايراني ثم تناور إعلامياً لادعاء العكس.

يعني حتى بالشكل لا تترك طهران لأتباعها هؤلاء ما يحفظ لهم شيئاً من ماء الوجه! ولا تترك لهم باباً واحداً مفتوحاً للأخذ والرد مع السعوديين ولا للتواصل ولا للياقات ولو كانت مغلفة بالخبث. حجم العدوان الأخير يدلّ على أن طهران أصيبت بهستيريا حقيقية من مجرد إحتمال سلوك النزاع اليمني طريقاً الى مقاربة غير عنفية واستئناف الحكي بين اليمنيين بداية ثم مع جيران اليمن العربي تتمة.

ما تقوله طهران أو تريد قوله هو أن ورقة العدوان على دول الخليج العربي والسعودية على رأسها، انطلاقاً من الخاصرة اليمنية، لا زالت في يدها، وهي التي تقرر موعد رميها على طاولة التفاوض، وفي اللحظة المناسبة لها والمتناسقة مع أهدافها. وآخر هم من همومها هو الأخذ في الاعتبار مأساة الشعب اليمني المتصاعدة أو سعي دول التحالف للوصول الى صيغة تسووية تنهي تلك المأساة أو تضعها على طريق النهاية.

استثمرت ايران في المأساة اليمنية خدمة لمشروعها وطموحاتها وليس لـ”نصرة المستضعفين”. وتستثمر في مآزق لبنان وفق ذلك المسار وليس لـ”مقارعة الصهاينة” أو رميهم في البحر. أجندتها التوسعية آتية من مخزون الشاه أصلاً وفصلاً، وجذرها قومي مذهبي قبل أن يكون مؤدلجاً أو مسيّساً أو خاضعاً لمزدوجة الحق والباطل. وكل شيئ وأي شيئ يمكن اعتماده والأخذ به للوصول الى الغاية المنشودة التي تضع ايران في مصاف الدول القطبية والمحورية في العالمين العربي والاسلامي.

اليمن ضحية ذلك المشروع. ومثله لبنان، ومعهما سوريا، ودائماً العراق في صدارة السعي بحكم التماس الجغرافي والمعطى المذهبي والتاريخ الامبراطوري الساساني… لكن ازدياد أهمية اليمن في هذه الخريطة متأت من جغرافيته المتصلة بالعمق السعودي والخليجي ومن تيقن طهران بأن السعودية بثقلها ودورها وإمكاناتها ومركزيتها في دنيا العرب والاسلام هي السد الفعلي والعملي والحقيقي في وجه مشاريع التوسع العدواني والفتن المذهبية والوطنية وسياسات التدخل في شؤون الغير غصباً وقهراً وظلماً وبهتاناً، واستهدافها والاعتداء عليها تبعاً لذلك هو نهج مستدام عند صاحب الشأن الايراني، وفيه تختلط السياسة بالثارات والعقد التاريخية وبدايات الاسلام ونهايات ما قبله.

… الاعتداءات الارهابية الأخيرة على المملكة جزء من ذلك المسار المنهجي، لكن هدفها الراهن والمباشر هو قصف أي مبادرة خليجية أو أممية لمحاولة وقف النار وبدء السعي الى حل سياسي للمحنة اليمنية. ثم تأزيم سوق النفط أكثر فأكثر بعد حرب أوكرانيا، بحيث أن طهران تريد أن تقول، ان تأخر الحل في فيينا يبقي تلك السوق مضطربة في حين أن الاستعجال في الوصول اليه يريحها تبعاً لعودة ايران اليها… وإيران هذه مستعجلة على اعادة وصل ما تقطع من شرايين العلاقة مع “الشيطان الأكبر”! وهي وإن كانت على قلق وكأن الريح تحتها، تشعر (أو تعرف!) بأن واشنطن بدورها مستعجلة أيضاً على تلك العودة الى الاتفاق، وفي سبيله ومن أجله، لن “تتوقف” جدّياً عند الاعتداءات على أهداف مدنية تنموية في السعودية طالما أن الجماعة الحوثية هي عنوان التنفيذ، وهذه حسب ادارة الرئيس جو بايدن، خرجت من تصنيف الارهاب ولن تعود اليه قريباً!

شارك المقال