الإحباط المسيحي وإسهامات الجنرال

كمال ريشا
كمال ريشا

عبر التاريخ الحديث عانى المسيحيون من حالات ضياع وصل أحياناً إلى ما سمي بـ”الإحباط المسيحي”. وفي كل مرة كان لهذا الإحباط الناتج عن الضياع تداعيات تدفعهم إلى الهجرة، فكانوا بدايات القرن الماضي يهيمون على وجوههم إلى أقرب مرفأ يتوسلون لركوب “البابور” عمالاً على مراجل الفحم الحجري، أو عمال نظافة، تحملهم السفن إلى شواطئ الاميركتين أو إلى أي شاطئ بعيداً عن مجاعة وحصار من قبل سلطات الوصاية التركية على جبل لبنان.

وقوف كنيستهم في مقام القيادة على الرعية، وبدعم من الكنيسة الجامعة الكاثوليكية وحاضرة الفاتيكان، أقبلوا على العلم، وتم افتتاح المدارس بإشراف الكهنة، ثم توسع التعليم في صفوفهم، في ساحات الكنائس، وفي الأديار، فكانت مدارسهم مقصداً للطلاب، من لبنان وخارجه.

وحين عزف المسلمون عن التعاون مع سلطات الانتداب الفرنسي، وفي مقابل التعاون المسيحي، كان المسيحيون في جهوزية تامة لتسلم الإدارات العامة التي خلفتها سلطات الانتداب، حسب الدستور الفرنسي، الذي أصبح لاحقاً بطبعة عربية، دستور الجمهورية الأولى.

بعد الانتداب تسلم المسيحيون عامة والموارنة خصوصاً مقاليد الحكم في لبنان، وحاولوا بناء دولة، تكمل ما كان بدأ مع الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى العام 1975، حين انفجرت في وجههم حرب ما زالت مستمرة إلى اليوم.

وفي معزل عن الأخطاء والثغرات التي شابت عملية بناء الدولة، أطلق اللبنانيون على تلك الحقبة، الممتدة من تاريخ انسحاب الجيش الفرنسي حتى 13 نيسان 1975، تسمية “المارونية السياسية”، مع أنها لم تكن كذلك، حيث كانت شراكة كاملة، إسلامية مسيحية، بين رؤساء الحكومات السنة، والمجالس النيابية، من الشيعة، وكتل نيابية مختلطة، حيث كانت كتلة حزب الوطنيين الأحرار بزعامة الرئيس شمعون النيابية، تضم شيعة وسنة، وكتلة الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة الزعيم كمال جنبلاط، تضم مسيحيين وسنة، وشهدت تلك الحقبة ازدهاراً على المستويات كافة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فكانت تسمية “سويسرا الشرق”، تطلق على لبنان بمرافقه كافة.

في عز الحرب الأهلية، لم تقطع قيادات المسيحيين خيط وصل مع الجانب الآخر من الوطن، وكانت تلتزم حدود الميثاق الوطني، وإن أوغلت أحياناً بعيداً في التعدي على الميثاق، وبقى سقف الدستور نبراساً ومعياراً لعلاقات القيادات اللبنانية في ما بينها.

مع نهاية حقبة الثمانينيات، تسلم الجنرال الطموح ميشال عون رئاسة حكومة انتقالية، كان هدفها حسب الدستور “تأمين انتخاب رئيس للجمهورية، لتعذر حصول العملية الانتخابية في موعدها الدستوري”.

الجنرال وفور تسلمه مقاليد السلطة، باشر التعاطي مع وظيفته كرئيس للجمهورية، على رأس حكومة من وزيرين مسيحيين، بعد أن استقال الوزراء المسلمون من مهامهم قبل أن يتسلموها.

وانخرط الجنرال في حربين مدمرتين، أنتجتا إحباطاً مسيحياً، أين منه إحباط المجاعة بدايات القرن الماضي. ومع الحرب المسماة “إلغاء”، من بقي حياً من شباب الموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً، حزم حقائب السفر إلى قبرص ومنها إلى المهاجر، وبقي هناك.

ومع إنهاء حال التمرد، في 13 تشرين الثاني 1990، استمر الإحباط المسيحي، بفعل هيمنة سلطات الوصاية السورية على السلطة اللبنانية، وتعاون بعض المسيحيين مع سلطات الوصاية، فكانوا الغطاء المسيحي لممارسات الجيش السوري ومخابراته.

مع النهضة التي أحدثها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبنتيجة اتفاقه مع البطريرك الراحل مار نصرالله صفير، استعاد المسيحيون مع سائر اللبنانيين بعضاً من أمل في بناء دولة، فعاد بعض من هاجر منهم، واستثمر في لبنان، بضمانة وجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري في سدة الحكم. إلا أن هذه الحقبة لم تكن كما ارادها الرئيس الشهيد، فكانت سلطات الوصاية السورية له بالمرصاد، بأدواتها المحلية من مسيحيين ومسلمين، بطريقة غير مباشرة، وأحياناً بطريقة مباشرة، حين تعجز أدوات سلطات الوصاية المحلية عن القيام بدورها، في عرقلة مشروع الحريرية السياسية.

مرة جديدة، وقف البطريرك الماروني نصرالله صفير بالمرصاد، وأطلق نداء المطارنة الشهير، الذي أسس لانسحاب الجيش السوري من لبنان. ومع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واجتماع اللبنانيين في ساحة الشهداء، شبّه للبنانيين أنهم تخلصوا من وصاية سوريا، وحان الوقت للبنان الجمهورية الثانية.

من جديد كانت سلطات الوصاية الايرانية، التي تعمل عبر “حزب الله” المتقن التنظيم والمدجج بالسلاح، بالمرصاد لعملية بناء الدولة، ولكن ما لم يكن بالحسبان أن تتغلب طموحات الجنرال عون الشخصية بالجلوس على كرسي الرئاسة، على كل ما عداها. فأنجز اتفاق مار مخايل، ومارس دور تغطية كل ممارسات “حزب الله” الداخلية منها والخارجية… والثمن تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية سنتين ونصف السنة ليتربع الجنرال مزهواً على مقعد رؤساء الجمهورية.

مع تسلمه السلطة شبّه للبنانيين أيضاً أنهم دخلوا مرحلة جديدة، من اتفاق سني – ماروني بمباركة شيعية والتحاق درزي، بما يؤمن الحد المطلوب من الاستقرار السياسي، الذي لا بد وان ينتج عنه بعض رفاه اقتصادي، واستقرار اجتماعي، يؤسس لمشروع استعادة الدولة.

ولكن للمرة الثانية، يخيب الظن، حيث تم استخدام مقولات مثل “العهد القوي” و”ألقضاء القوي” و”مكافحة الفساد” وسواها من الشعارات، التي اعتاد الجنرال وتياره تأسيس حملاتهم عليها، للتعمية على إفراغ الجمهورية الثانية من مضمونها، وتحويلها إلى مؤسسة عائلية… فلا بقيت جمهورية أولى، ولا تأسست الثانية، وبطبيعة الحال لن يكون هناك أمل بالثالثة.

وعلى يد الجنرال عينه، تدخل البلاد مرحلة إحباط عام جديدة، ويحزم اللبنانييون حقائب سفرهم، في انتظار أول دولة تبدي استعداداً لاستقبالهم لاجئين أو عمالاً أو حتى عالة على أقاربهم الذين سبقوهم.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً