الحرب في أوكرانيا… ما دخل لبنان؟

أنطوني جعجع

تباعاً ومن دون مقدمات، سقطت هدنات متقطعة في مكان وأخرى طويلة في مكان آخر، وتحولت أجزاء من العالم الى منصات بريدية يحركها طرف أو أكثر من طرف محرج في أكثر من اتجاه…

اذ ليس من قبيل المصادفة، وفي عز الضغط العسكري والاقتصادي والديبلوماسي الذي يتعرض له الرئيس فلاديمير بوتين، والضغط شبه المماثل الذي تتعرض له ايران في مفاوضات فيينا، أن تتحرك الجبهة الداخلية في اسرائيل، وأن تتحول شوارع أميركا الى مسارح عنفية متنقلة، وأن تحرك كوريا الشمالية ترسانتها النووية أو غير التقليدية على الأقل، وأن تثير الصين ملف تايوان في خطوة قد تجرها، في حال التهور، الى مواجهة مباشرة مع المعسكر الغربي وتحديداً مع الولايات المتحدة، وأن ينفجر الوضع الأمني من الشمال الى الجنوب مروراً ببيروت في شكل يتجاوز النقمة العفوية والمبررة الى ما يشبه “الانتفاضة” المقصودة.

انها في العلم الاستراتيجي، الأوراق التي تُسحب غب الطلب في الأوقات الحرجة، والأسلحة الخفية التي يحتفظ بها المتقاتلون المباشرون وغير المباشرين في محاولة لاقامة نوع من التوازن في لعبة عرض العضلات وعض الأصابع وتغيير المعادلات.

والواضح في هذا المجال أن من يحرّك هذه الملفات هو محور الشرق الذي يقوده الكرملين في الوقت الحاضر، وتعاونه، بما تيسر، دول تعتبر “هزيمة” الروس في أوكرانيا هزيمة تحمل من الشظايا ما يكفي لضرب أو تحجيم أو ردع قوى أخرى في آسيا والشرق الأوسط، وانتصارها، انتصاراً ثميناً ومطلوباً لاعادة ترتيب النظام العالمي الذي تتفرد به الولايات المتحدة منذ طي الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي.

ويجمع مراقبون عسكريون وديبلوماسيون على أن ما يجري في القدس، وما سبق ذلك في شوارع اسرائيل، لم يكن قراراً فلسطينياً محض، بل قرار ايراني ينبع من هدفين أساسيين أو ثلاثة على الأرجح، الأول إفهام أميركا أن طهران لن تقبل في فيينا بأقل من تسوية شاملة ترفع عنها العقوبات أولاً وتطلق يدها في كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان سواء عسكرياً عبر “الحرس الثوري” أو حركة “حماس” أو “حزب الله” أو “الحشد الشعبي” أو “الحركة الحوثية”، أو سياسياً عبر انتخابات مضمونة، وثانياً إفهام اسرائيل أن الايرانيين يستطيعون تفجير الداخل الاسرائيلي رداً على الغارات التي تستهدف مواقعها في سوريا، واستباقاً لأي عمليات جوية أو مخابراتية قد تستهدف المنشآت النووية في العمق الايراني، وثالثاً إفهام الدول التي طبعت علاقاتها مع تل أبيب، أن الورقة الفلسطينية لا تزال ورقة متفجرة ولن تصبح أبداً ورقة مطوية في جعبة أحد.

ولا تبدو موسكو بعيدة مما تفعله ايران في الدولة العبرية، إن لم يكن من باب الاستياء فمن باب الضغط على أميركا التي تعتبر اسرائيل جزءاً من أمنها القومي تماماً كما يعتبر الكرملين الجار الأوكراني جزءاً من أمنه القومي.

وقد يسأل البعض، وماذا عن عمليات اطلاق النار المتكررة في شوارع الولايات المتحدة وما علاقتها بما يجري في أوكرانيا؟ والجواب، على بساطته، يدخل في لعبة الاستخبارات التي تحاول استخدام كل ما تيسر من ضغوط وأوراق وألغام وتناقضات وإرباكات لحمل الخصم على اعادة حساباته أو التراجع عن بعض استراتيجياته أو التخفيف من بعض مغامراته.

ومن شوارع القدس وأميركا، لا بد من سؤال بديهي، ماذا دفع كوريا الشمالية الى تحريك ترسانتها في أعمال عسكرية تجاربية مشبوهة كادت تثير توتراً جدياً مع جارتها الجنوبية؟ وماذا دفع الصين الى إبلاغ وزير الدفاع الأميركي أنها لن تتخلى عن جزيرة تايوان، والى إبرام اتفاق عسكري مع جزيرة سليمان في خطوة أثارت مخاوف أستراليا ونيوزيلندا المتحالفتين مع الولايات المتحدة، وشكلت رداً على انضمام أستراليا الى حلف بحري يضم أميركا وفرنسا ويجول في بحر الصين الذي تحاول بكين تحويله الى بحيرة صينية، تماماً كما تحاول روسيا أن تفعل في كل من البحر الأسود وبحر ازوف؟

وقد يرى البعض في هذه التحركات شيئاً من الصدفة وربما شيئاً من الأمور العادية التي شهد العالم بعضاً من مثيلاتها من قبل، لكن هذا لا يعني أن في الأمر ما لا يؤسس لبيئة متفجرة لا يمكن التكهن بمدى جديتها ولا بتوقيتها وساحاتها المحتملة.

وقد يرى البعض أيضاً أن أحداً من هؤلاء، باستثناء روسيا، لا يبدو مستعداً لتفجير أزمة حساسة قد تفجر حرباً عالمية ثالثة، لكن هذا لا يعني أيضاً أن أحداً منهم سيبتلع أي “هزيمة” قد تتعرض لها موسكو في أوكرانيا أو أي توسع للترسانة الأميركية في أوروبا وآسيا، أو أي تمدد للدولة العبرية على أعتاب ايران، أو أي منافسة غربية في بحر الصين، أو أي تهديد أميركي للترسانة النووية والصاروخية المتعاظمة في بيونغ يانغ.

ويصر عدد من المراقبين العسكريين على أن الحرب في أوكرانيا شكلت سلسلة مترابطة بين دول المحور الشرقي، بحيث بدا سقوط حلقة كفيلاً بسقوط الحلقات الأخرى الواحدة بعد الثانية، وهو أمر لا تتحمله الصين الساعية الى تطويع آسيا واجتياح الأسواق العالمية، ولا تتحمله ايران الساعية الى التوسع عسكرياً وعقائدياً في الشرق الأوسط والاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية في غير مكان …

وهنا لا بد من سؤال جوهري، ما علاقة لبنان بكل هذا؟

والجواب بسيط، خصوصاً أن كلاً من روسيا وايران وأميركا والسعودية واسرائيل ترى في هذا البلد شيئاً مما تحتاج اليه أو تراهن عليه، اذ أن موسكو ترى فيه امتداداً لنفوذها المستحدث في سوريا، وترى فيه ايران جزءاً أساسياً من هلالها الممتد من طهران الى المتوسط وورقة ضغط على الأمن الاسرائيلي والمصالح الأميركية، وترى فيه أميركا موقعاً استراتيجياً فاعلاً يجب ألا يسقط في قبضة الجمهورية الاسلامية، وترى فيه السعودية بيئة صديقة تمنع تحويل لبنان الى كيان شيعي أصولي يسهم في مزيد من التضييق على الدول السنية في المنطقة، وترى فيه اسرائيل قنبلة موقوتة لا يمكن التكهن بمدى خطورتها ولا بتواقيتها ولا بأسلحتها.

من هنا تتأرجح الانتخابات النيابية المقبلة بين التأجيل والإقدام، وفق حسابات الربح والخسارة، وتكتسب أهمية لافتة تكاد تكون الأهم منذ عقود طويلة.

ومن هنا أيضاً لا يبدو ما جرى ويجري في طرابلس بالتزامن مع ما جرى في الصرفند ومع أعمال التهويل التي تطاول المرشحين المعارضين في مناطق “الثنائي”، واشتباكات عائشة بكار واطلاق قذائف من لبنان في اتجاه اسرائيل، بعيداً من محاولة تهدف الى تحقيق أمرين: أولاً خلق أجواء احتياطية وغب الطلب تسهم في تأجيل الانتخابات اذا تأكد للسلطة أن نتائجها ستصب في مصلحة المعارضة، وثانياً الانتقاص من هيبة الجيش وحرق أوراق قائده في المعركة الرئاسية المقبلة.

وانطلاقاً من هذه الوقائع لا عجب اذا تبين الشهر المقبل أن الناخب اللبناني لن يكون الناخب الوحيد، إذ سرعان ما قد يلتقي قرب صندوق الاقتراع لوائح أخرى تضم مرشحين “غرباء” وناخبين آخرين يحملون ملامح “غريبة”.

شارك المقال