موسكو وواشنطن والأمن الأوروبي ما بعد أوكرانيا

حسناء بو حرفوش

ما الذي سيحصل عقب الحرب الأوكرانية؟ تميل القراءات الروسية الى تسطير العداء الذي لا مفر منه بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، مع الجزم بأن الطرفين سيعودان في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات للبحث في الأمن الأوروبي. وفي هذا السياق، توقع مدير مركزValdai، أندريه سوشينتسوف، والذي يعتبر مقرباً من الرئاسة الروسية “أن تعمل واشنطن بما تقتضيه مصلحتها أي إطالة الأزمة الأوكرانية لأطول فترة ممكنة، بحيث تخرج روسيا أضعف، وبالتالي يتغير الواقع التفاوضي في مركز صناعة القرار”.

ووفقاً لسوشينتسوف، “ساد منطق خطي في العلاقات بين روسيا والغرب خلال الأعوام الثلاثين الماضية. وقد وصف الرئيس الأميركي الثاني والأربعون، بيل كلينتون، المنطق الأميركي المتبع في مقال في موقع “ذا أتلانتك” أوضح فيه أن سياسته تتوخى العمل من أجل الأفضل وتوسيع حلف الناتو بالتوازي مع الاستعداد للأسوأ. وتُظهر هذه الصياغة “الساعية للأفضل”، توسع النفوذ الغربي كأداة للهيمنة الجيوستراتيجية من موقع قوة، مع تغذية الأفكار حول انتشار مؤسسات الديموقراطية والليبرالية والتبادل الحر واقتصاديات السوق بشكل عام.

بدورها، بُنيت استراتيجية السياسة الخارجية لروسيا في التسعينيات أيضاً على أساس “السعي للأفضل”. فكان أول وزير خارجية لروسيا في عهد (بوريس) يلتسين، أندريه كوزيريف، من المؤيدين النشطين للمسار الموالي للغرب. وعلى الرغم من ترويجه بنشاط لوجهة النظر هذه، بقيت قائمة بالمصالح الحيوية التي لم تبد روسيا استعداداً للتخلي عنها. ومع نهاية فترة ولايته، بدأ خطاب كوزيريف بالتغير. فشرع الوزير بالترويج لفكرة أن توسع الناتو يؤثر على المصالح الأمنية لروسيا. وقد لاحظ ذلك محللون أميركيون بارزون، ممن وضعوا أسس الحرب الباردة. وآنذاك، وصف المؤلف الديبلوماسي الأميركي جورج كينان، في مقاله في العام 1997 في صحيفة “نيويورك تايمز”، علانية توسع الناتو بأنها “خطأ مصيري”، محذراً من أن مثل هذه السياسة ستؤدي حتماً إلى صدام مع روسيا. وسطر في مقاله تركيز الروس على تأثر مكانتهم ومصالحهم الأمنية سلباً. وقال: إذ لن يكون أمامهم سوى خيار القبول بالتوسع كأمر واقع عسكري، سيستمرون باعتبار ذلك بمثابة رفض من جانب الغرب وهذا ما سيدفعهم على الأرجح الى البحث في مكان آخر عن ضمانات لمستقبل آمن.

كما حذر العالم السياسي الأميركي جون ميرشايمر، في العام 2003 من انهيار الدول علانية بشكل يهدد الاستقرار العالمي، معتبراً أن القوى العظمى ينبغي ألا تتشاجر مع بعضها البعض، لأن العالم بأسره سينهار في حالة صدامها. وهذا هو السبب الذي يبرر انهيار الهيكل العالمي للاستقرار اليوم. وفي مقابلة حديثة، اعترف وزير الخارجية الأميركي (انطوني) بلينكن بأن حقبة ما بعد القطبية الثنائية قد انتهت، وأن زمن التنافس العالمي بين روسيا والولايات المتحدة قد بدأ.

هذا يعني أن العالم سيضطر حتماً الى مراقبة تجاوزات هذا التنافس في شكل أزمات إقليمية، وسيُبنى النظام الجديد الذي سيتشكل نتيجة للأزمة الأوكرانية على العداء المتبادل. كما من المحتمل أن تصبح الوثيقة التأسيسية بخصوص العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن، بين روسيا والناتو للعام 1997 طي النسيان، وستكون القوات المسلحة للناتو أكثر نشاطاً في أوروبا الشرقية، مما يعيدنا إلى ذكريات الحرب الباردة. ومع ذلك، هناك اختلافات جوهرية بين النظام القديم والوضع الحالي، بحيث أيقن الجميع تكلفة الخطأ ومخاطر التصعيد التلقائي للأزمة. وخلال العديد من الأزمات الهامة بين الاتحاد السوفياتي والغرب، أدرك الطرفان أنه لا يمكن لأحد تحمل حرب كبيرة من شأنها أن تؤدي إلى إبادة كاملة.

وعلى الرغم من العداء، ستناقش روسيا الخطوط العريضة المستقبلية للأمن الأوروبي مع الولايات المتحدة. وقد بدأت المشاورات الروسية – الأميركية، بشكل ماراثون ديبلوماسي طويل في تشرين الثاني – كانون الأول 2021، عندما جرت آخر محاولة للتوصل إلى تسوية ديبلوماسية للخلافات العسكرية. ومع قلب صفحة الأزمة الأوكرانية، سيعود الطرفان إلى المفاوضات، وستعود المشاورات الروسية – الأميركية من جديد لتحتل مركز صنع القرار بشأن مستقبل الأمن الأوروبي”.

شارك المقال