خطورة المناورات

علي نون
علي نون

أكبر من معركة عابرة، وأقل من حرب، ذلك الذي يحصل في غزة وضد أهلها، لكن خطورته تكمن في توازيه مع المناورات العسكرية الإسرائيلية (المعلقة مرحلياً) الأكبر من نوعها في تاريخ جيش الاحتلال (كما قيل) والتي يُراد منها أن تكون مثل عنوانها “غير مسبوقة ” في اهدافها ومراميها.

هناك شق ميداني عملياتي واضح يستهدف (متابعة) التدريب على مواجهة القدرات المتراكمة والمتنامية لـ”حزب الله” في لبنان وسوريا من جهة، و”حماس” وملحقاتها في “الجهاد الاسلامي” من جهة ثانية، لكن ذلك لا يبدو كافيا للتبرير والتفسير والتوقيت، بل العكس هو الصحيح… حيث إن الهدف السياسي من وراء المناورات العسكرية (قبل المعركة الدائرة الآن) يتخطى الموضوع الجغرافي ومسرح العمليات، ويذهب بعيداً: رسالة ميدانية إلى الأغيار الأعداء المباشرين والظاهرين، ورسالة “غير مسبوقة ” إلى الإدارة الاميركية قبل غيرها وربما أكثر من غيرها!

وكأن إسرائيل تقول إنها مستعدة لترجمة اعتراضها على أي اتفاق مع إيران غير مستوف كل الشروط المطلوبة، من خلال الخروج إلى الحرب مع أدوات إيران! وإذا كانت إدارة الرئيس جو بايدن غير قادرة، بالتفاوض والمساومات، على تحجيم أو لجم أو ضبط التمدد الإيراني شمالاً في لبنان وسوريا وجنوباً في غزة، أو معالجة قضية الصواريخ الباليستية، فإن الميدان هو البديل الصحيح للوصول إلى ذينك الهدفين.

… وهذا الميدان مشبع أصلاً بأسباب تفجره قبل مفاوضات فيينا، ولا تنقصه إلا تلك الشحنة الإضافية المتأتية من اتفاق ناقص تبرمه إدارة غير صديقة في واشنطن مع أخطر أعداء إسرائيل!!

الى هذا الحد يمكن افتراض دقّة المشهد بالنسبة إلى إسرائيل و”اضطرارها” إلى دق الابواب الصعبة ،لإسماع شكواها من خلال التلويح بإشعال النار بالجملة، بدلا من متابعة اشعال الحرائق الصغيرة والمتفرقة والمتباعدة زمنيا… وفي ذلك تصح شكواها! باعتبار أن الاستهدافات الواضحة والخفية للأهداف الإيرانية، برا وجوا وبحرا، والغارات بالطيران الحربي والصواريخ على المواقع والثكن والمصانع والقواعد المنتشرة في سوريا، لم توصل إلى الهدفين المركزيين المطلوبين: الأول هو منع تموضع إيران وتركيز حضورها في سوريا، والثاني هو منع تنامي القدرات والتقنيات الصاروخية والتسليحية عموماً لـ”حزب الله ” في لبنان ولـ”حماس” في غزة.

إلا أن البعض يقول إن بنيامين نتنياهو، لا يهوى الدخول في حروب كبيرة (خارج نطاق غزة !) وهو لم يفعل ذلك في كل حال طوال وجوده المديد في منصبه كرئيس للحكومة… دخل في حربين “صغيرتين” (مثل الحاصلة حاليا) مع غزة في عامي ٢٠١٢ و٢٠١٤ ، لكن غير ذلك، آثر الضربات والمعارك المحسوبة والمحدودة، وراهن (ولا يزال ربما) على العمل التخريبي الأمني لاستهداف إيران ومشروعها النووي وأدواتها العابرة لحدودها… لكن نتنياهو اليوم غيره بالأمس! ومصيره على الطاولة. واحتمالات انتهاء حياته السياسية تبدو للمرة الأولى، أكبر من احتمالات استمراره. وهذا يعطي شيئًا من الجدية المضاعفة والمضافة للكلام عن الأهداف الفعلية للمناورات العسكرية “غير المسبوقة ” وخصوصاً لجهة اعتبارها رسالة “تمرد” إلى القريب الأميركي، بقدر ما هي رسالة تهديد ووعيد إلى العدو الإيراني أو السوري أو الفلسطيني!

ولأن الامر “غير مسبوق ” على صعيد العلاقات الأميركية – الإسرائيلية (في الشمال) فإن سيل الأسئلة لا ينقطع، ومنها: هل تذهب إسرائيل إلى أي حرب (في الشمال أساساً وتحديداً) من دون موافقة أميركية مسبقة وحاسمة؟ وهل يمكن تل أبيب أصلا أن تعارض قراراً أميركياً كبيراً واستراتيجياً ويتصل بما تراه واشنطن مصالحها العليا؟ وهل يمكن قبل ذلك أن تنخرط أي إدارة اميركيه في أي أمر تراه إسرائيل مضرًا بها؟ أم أن ما يحصل في الظاهر لا يلغي توافقاً انصهارياً في الباطن؟ وبالتالي هناك اختلاف في القراءة لكن الكتاب واحد! وما لا تستطيع إسرائيل أن تأخذه من عدوها الإيراني، لصعوبة الأمر واستحالة الشكل طالما أن حديث الفناء والإفناء لم يمر عليه الزمن بعد، يمكن واشنطن أن تأخذه بالمفاوضات والمساومات… والضمانات المتبادلات؟

لا تبدو الأجوبة سهلة أو سريعة أو تلقائية مثلما جرت العادة عند الحكي عن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وهذا عامل إضافي للافتراض بأن اللحظة الراهنة في تلك العلاقات لا تشبه شيئاً من تاريخها… إدارة الرئيس بايدن تبدو مصممة على إتمام تركيب مشهد معقد يطال تصفية حساب شاملة مع تركة دونالد ترامب، داخلياً وخارجياً، وعلى مدى مروحة تبدأ بالسياسة المتبعة إزاء المهاجرين وبناء السور الحدودي مع المكسيك، وتمر على حلف “الناتو” والعلاقات مع الأوروبيين، لتصل إلى إيران والاتفاق النووي، وروسيا وأدوارها الناشطة في كل مجال ومدار، والصين وصعودها وأخطارها الكبرى… الخ.

ونتنياهو جزء من ذلك المشهد تبعاً لانخراطه العميق مع ترامب والجمهوريين ضد بايدن والديمقراطيين، لكن الفصل بينه وبين إسرائيل الدولة والمؤسسة العسكرية صعب، طالما أن الخطر الذي تمثله ايران يقارب مستوى الحياة أو الموت!! ولذلك تأخذ المناورات العسكرية الأخيرة هذه، باتجاه جبهة الشمال تحديداً، تلك الأبعاد الخطيرة و”غير المسبوقة ” أقله منذ حرب لبنان في العام ٢٠٠٦: أميركا جدّية في ما تراه مصلحة استراتيجية لها في العودة إلى الاتفاق النووي مع ايران، لكن إسرائيل (وليس نتنياهو) تقول إنها جدّية بدورها في الاستعداد لمواجهة مخاطر اتفاق غير كاف أو آمن أو غير تام! وهذا اصطدام كان يمكن التفرج عليه من بعيد ببعض الانشراح والحبور، لولا أنه لا يمكن أن يُترجم إلا على الأرض الرخوة في لبنان أو في غزة! ولولا أنه لا يُعدل الشيء الكثير في قضية رضوخ أي إدارة أميركية لمنطق أولوية مصلحة إسرائيل على ما عداها، وتحديداً إزاء التسوية واحتمالاتها مع الشعب الفلسطيني!

لهذا تبدو المناورات العسكرية المعلقة مرحلياً خطيرة إلى درجة كبيرة واستثنائية، واحتمالاتها مفتوحة على الأسوأ… بغض النظر عن تطورات ما ترتكبه إسرائيل ضد غزة وأهلها.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً