البرلمان الجديد… انقلاب على الانقلاب

أنطوني جعجع

يعرف السيد حسن نصرالله أنه تعثر في “حرب تموز السياسية”، وأن شهر العسل الطويل الذي حظي به في المعادلة اللبنانية يوشك الانكماش، بعدما وجد نفسه أمام توازن قوى في البرلمان الجديد يقطع عليه الكثير من الدروب نحو “الجمهورية الاسلامية” التي يرسيها قطعة بعد قطعة…

وليس سراً أن أركان “حزب الله”، الأمنيون منهم والسياسيون، ينظرون الى الانتخابات الأخيرة من بوابة النكسة غير المتوقعة، ويجرون عملية تقويم واسعة ودقيقة لتحديد مكامن الخلل في البيئة الشيعية التي خرجت من قمقمها، وفي البيئة المسيحية الحليفة التي انتفضت على خيارات قادتها، ونزعت جزءاً لا بأس به من الغطاء “الشرعي” عن اتفاق مار مخايل.

وليس سراً أيضاً أن محور الممانعة يشعر بأن ما كان يتوقعه ويراهن عليه في لبنان، لم يكن أفضل حالاً مما أصابه في العراق ولم يمنحه الورقة الرابحة التي أراد سحبها في وجه الأميركيين في فيينا وفي وجه الاسرائيليين على الجبهتين البرية والبحرية، وفي وجه أهل الخليج الذي يجهدون لشد العصب السني في كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان وغزة، وانتشاله من الهيمنة الايرانية المتزايدة.

وليس سراً أيضاً وأيضاً أن الأميركيين يشعرون بنوع من الارتياح الى نتائج الانتخابات التي يرون أنها فتحت ثغرة في الجدار الممانع الصلب، وشكلت أرضية تسمح بسحب لبنان تدريجاً من قبضة “حزب الله” المطلقة، والحد من حكم الأحادية في القرارات الوطنية المصيرية.

وانطلاقاً من هذا المشهد المتشابك، يمكن فهم التحذيرات التي يطلقها النائب محمد رعد، بالوكالة عن حسن نصر الله من جهة وايران من جهة أخرى، في محاولة مبكرة منه للانقلاب على الانقلاب وفرملة الاندفاعة التغييرية – السيادية في البرلمان الجدبد تحت شعار: أعذر من أنذر.

ويتردد في أوساط “حزب الله”، أن الأخير يقف أمام خيارين، اما تطويع المعارضة الجديدة من خلال تسويات يبرمها منطق السلاح واما استخدام السلاح لفرض هذه التسويات، لكنه، وبعيداً من الثمن المرتقب والتداعيات المحتملة، لن يقر بالهزيمة ولن يسلم مصيره للمجهول في وقت يخوض عرابه الايراني واحدة من أصعب محاولاته الرامية إلى تثبيت مكاسب الثورة الاسلامية من طهران الى البحر المتوسط مروراً باليمن والمجتمعات الشيعية في الخليج وصولاً الى غزة.

وما يعزز هذه الفرضية، الحقيقة التي تقول إن “حزب الله” خرج من الانتخابات وحيداً، بعدما فشل في الحصول على كتلة نيابية سنية يعتد بها، أو كتلة درزية، أو حتى كتلة مسيحية وازنة، وهو العارف أن معظم نواب “التيار الوطني الحر”، دخلوا البرلمان الجديد بأصوات مسلمة عموماً وشيعية خصوصاً في أكثر من مكان، الأمر الذي يطرح السؤال الآتي: كيف يمكن للنائب جبران باسيل أن يوفر غطاء مسيحياً لم يعد يملكه سواء لمصلحة “حزب الله” أو في مواجهة الأطراف المسيحية الأخرى؟

وأمام هذا الواقع القاتم لا يعوّل الكثير من المراقبين على تعاون إيجابي من محور الممانعة، مرجحين أن يلجأ المسؤولون في ايران، الى تفريغ التركيبة الجديدة من مضمونها عبر سلاح النصاب في مجلس النواب وسلاح الفراغ في مجلس الوزراء وسياسة المماطلة في رئاسة الجمهورية.

واستبعد هؤلاء المراقبون أن يلجأ “حزب الله” الى تفجير صراع مسلح في الداخل ما دام قادراً على الضغط والرد بوسائل دستورية وقانونية، لكنهم لم يستبعدوا أن يلجأ الى استغلال عقدة الحدود البحرية وعمليات الحفر الاسرائيلية في المنطقة المتنازع عليها، لتفجير مواجهة يستعيد بها المبادرة في الداخل تماماً كما حدث بعد حرب تموز ثم بعد غزوة السابع من أيار.

وليست الغارات الاسرائيلية الأخيرة على تجمعات عسكرية تابعة للحرس الثوري و”حزب الله” في سوريا، الا رسالة تحذير مباشرة من أي محاولة لعرقلة عمليات الحفر بسلاح متطور كان في طريقه من ايران الى بيروت من جهة، ورسالة ضغط على المفاوضين الأميركيين في فيينا للحؤول دون تسويات تعطي ايران مستقبلاً القدرة على تهديد أمن اسرائيل من سوريا ولبنان من جهة ثانية، ورسالة تحذير أخرى من أي محاولة لانفلاش نفوذ ايران و”حزب الله” في سوريا، في وقت تنشغل روسيا بحربها الاستنزافية في أوكرانيا من جهة ثالثة.

وذهبت مصادر ديبلوماسية عربية وغربية متطابقة بعيداً الى حد القول، إن لبنان مقبل على كباش حاد بين محورين أساسيين: محور الممانعة الجريح ومحور المعارضة المنتعش، وان نهايته تتوقف اما على الجهة التي تصرخ أولاً، واما على اللجوء الى المنطقة الوسطى، أي رئيس للحكومة لم يكن طرفاً في الانتخابات الأخيرة، وهذا ما يفسر عودة اسم الرئيس سعد الحريري الى الواجهة، أو رئيس للجمهورية مثقل بالديون يخشى الجميع ولا يخشاه أحد.

انها في اختصار المنطقة الرمادية، حيث يعجز المعارضون عن تثمير “الانقلاب” في لعبة الحكم من دون محظورات، وحيث يجهد الممانعون للانقلاب على الانقلاب وتحاشي الخروج من الحكم وبالتالي من المعادلة الاقليمية التي تعطي ايران الجرعة الوحيدة القادرة على التحرك من دون رادع داخلي أو من دون إذن من أحد.

شارك المقال