مفاتيح فلسطين: أمل بالعودة وتمسك بالهوية

حسناء بو حرفوش

“فليلحقوا بي حتى القبر ليصادروا مفتاح بيتي”، هكذا اعتادت جارتي الفلسطينية أن تردد منذ وصلت إلى لبنان في ركب قافلة من المهجرين من القدس الشرقية بعد حرب 1948. يومها، وضعت المفتاح الضخم في سلسلة لفتها حول عنقها وخبأتها تحت عباءتها المزركشة بألف لون والتي اختفت تحت شال فلسطيني طويل بهت من غبار الطريق وتمزق قليلاً من الحجارة وجفّ بين نسيجه العرق والدمع معاً.

حين وصلت إلى لبنان، استقرت في قرية صغيرة من الجبل حيث بقيت مع زوجها وابنها. لم يعد المفتاح للظهور حتى العام 2001 حين علمت بمصادرة منازل فلسطينية في كرم الجاعوني. حينها، اقتحم مستطنون منزلاً ورفضوا مغادرته. وضعت المفتاح مجدداً حول عنقها وكأن به عواميد بيتها. “لن يأخذوه مني، فليلحقوا بي حتى القبر!”.

في العمق، أيقنا أن بيتها قد تعرض كما بيوت جيرانها للمصادرة والاحتلال. لكن أحداً لم يتمكن من مصادرة إيمانها بحقها بالمنزل الذي بنته مع شريك حياتها. هناك، في شرق فلسطين، بين كروم العنب والزيتون، حيث تتزاوج حرارة الشمس مع قطرات الماء المتطايرة من جعب الأطفال، ونداءات الصلاة وقرع الأجراس.

“لم يتمكن أحد من مصادرة مفتاح البيت، فبقي البيت سليماً بعيداً عن أعين المستوطنين المتعطشين للسيطرة على التاريخ وعلى الحجارة”. لكن الواقع مختلف تماماً، فقد تغيرت هوية الحي بأكمله فما بالك بالبيت. وحين توفيت، لم نسمع ولم نرَ المفتاح أبداً. لقد أخذت بيتها معها.

مفاتيح البيوت قصة قديمة حديثة يخبرها كل بيت فلسطيني بني خارج أرض الجذور وامتد حتى أرض الشتات. وفي قصة المفتاح الكثير من الرمزية والإيمان بأن ما يربط أهل فلسطين وأهل أحياء القدس وغزة وسائر البلاد وآخرها الشيخ جراح، ليست حجارة المنازل وإنما أبواب الذاكرة والهوية.

ففي التمسك بالمفاتيح، تمسك تتوارثه الأجيال الفلسطينية بحلم العودة وبالأمل بإحقاق الحق والتغلب على القهر والتلاقي مع ماضي الجذور، عدا عن البعد الديني وقدسية الأرض. وفي التمسك بالمفاتيح أيضا، تمسك بالهوية ورفض للتخلي عنها.

فمن لم يعرف فلسطين بسبب التهجير يعرفها في كل بيت فلسطيني في الداخل وخارج الأراضي المحتلة، من خلال التمسك بمفاتيح الهوية الثقافية والعادات والتقاليد حتى أبسطها، كالملبس والمشرب والأغاني الشعبية واللهجات المختلفة ومراسيم الاحتفالات وكل الميزات التي قد تندمج لتصنع نسيجا فلسطينيا متكاملا.

وفي التمسك بالمفاتيح تمسك بجذوع الأرض ليزهر الزيتون أيضاً في مواسم الخير على الرغم من اقتلاعه تدريجياً. ذلك الزيتون العتيق الذي إن حكى.. كذّب كل الادعاءات وأعاد الحق إلى أصحابه!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً