العسكر في العراق بين التجاذبات السياسية وفوضى الميليشيات

علي البغدادي

لم يكن التداخل بين السياسي والعسكري حدثاً عابراً في العراق خلال مختلف الحقب، لكن التحول الأبرز كان وقوع الجيش تحت طوع الحاكم وتحوله إلى أداة لتنفيذ رغباته منذ أن أطيح بالأسرة الهاشمية التي حكمت زهاء 37 سنة بعد انقلاب 14 تموز 1958 وما جرته من سلسلة انقلابات وأحداث انتهت بالغزو الأميركي في 2003 الذي أدخل البلاد في أتون الفوضى الخلاقة المستمرة.

تحول الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، عقب الغزو الأميركي من أداة بيد الحاكم إلى أداة بيد الأحزاب الحاكمة تخضع لإرادتها أو تسيرها كيفما تشاء، وصولاً إلى خضوع بعض الأجهزة لتثيرات اقليمية من إيران على وجه التحديد، حتى بات تولي المناصب العليا والمفاصل الحساسة مرتبطاً بضوء أخضر يطلقه ضابط إيراني أو أميركي، بينما تسلل الفساد المالي والإداري في إجراءات تعيين ضباط كبار على رأس الأفواج والكتائب العسكرية المسؤولة عن أمن المدن.

الفساد رغم المخصصات الضخمة

وأسهم الفساد الإداري والمالي في إضعاف بنية المؤسستين الأمنية والعسكرية، رغم أن ما هو مخصص لها مبالغ ضخمة تصل إلى 26 تريليون ونصف تيرليون دينار (نحو 18 مليار دولار) منها 9.96 تريليونات دينار (نحو 8 مليارات دولار) مخصصة لوزارة الدفاع، و12.3 تريليون دينار (نحو 9 مليارات دولار) لوزارة الداخلية. أما الحشد فخصص له 3.77 تريليونات دينار (نحو ملياري دولار) إلى جانب مئات ملايين الدولارات مخصصة للأمن الوطني والمخابرات وجهاز مكافحة الإرهاب وكل هذه الأجهزة لم تمنع من تدهور الأمن وضعف الجانب الاستخباري، فضلاً عن التدخلات الإقليمية في عملها.

التدخلات السياسية أنعشت “داعش”

ووصلت حدة التدخلات السياسية بمهام الأجهزة الأمنية العراقية ذروتها نهاية عام 2013، ما أدى في منتصف عام 2014 إلى سيطرة تنظيم داعش مدن كبرى من بينها الموصل وتكريت والرمادي ونحو ثلثي الأراضي العراقية وانهيار واسع للأجهزة الأمنية في تلك المناطق، ما دفع بالحكومة العراقية آنذاك إلى تشكيل قيادة العمليات المشتركة، لتلافي الانهيارات ولتنسيق الواجبات والاتصالات وتقاطع المعلومات على أن يكون رئيسها القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء استناداً للمادة ٧٨ من الدستور العراقي النافذ الذي منحه صلاحيات اتخاذ الخطوات العامة التي تحفظ أمن الدولة.

وما زال رئيس الحكومة يترأس قيادة العمليات المشتركة إلى جانب ضابط برتبة فريق يختار للعمل معه القادة الميدانيون المشهود لهم بالكفاءة والخبرة.

وبحسب شعار قيادة العمليات المشتركة فإنها تضم تحت أمرتها القوات العاملة في وزارة الدفاع من الجيش ووزارة الداخلية من الشرطة وجهاز المخابرات الوطني وهيئة الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الاٍرهاب وجهاز الأمن الوطني.

وتكمن أهمية وحضور القوات المشتركة بما تملكه من أجهزة اتصالات ومتابعة ومراقبة حديثة موجودة في مقرات كل قيادات العمليات والشرطة، وأيضاً ما يزود به من أجهزة اتصالات باتفاقيات مع الدول المتقدمة أمنياً، كروسيا وأميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وأيضاً اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحلف “الناتو”.

ويبلغ تعداد عناصر الجيش العراقي حالياً أكثر من 400 ألف عنصر موزعين على قيادات العمليات في مناطق جغرافية متفرقة إلى جانب 16 فرقة عسكرية إضافة للقوة الجوية والقوات البحرية والدفاع الجوي وأصناف متعددة تسيطر على الحدود ويتواجد معظمها خارج المدن.

أما القوات التابعة لوزارة الداخلية فتبلغ بحدود 600 ألف عنصر من الشرطة بأصنافها و6 فرق من القوات القتالية التابعة للشرطة الاتحادية وفرقة واحد للتدخل السريع متخصصة باحتواء المواقف الطارئة أمنياً، فيما يبلغ عديد وحدات جهاز مكافحة الاٍرهاب نحو 27 ألف عنصر تتوزع على ثلاث قيادات عمليات وتتمركز في بغداد، وانتشارها وتنقلها سريع مرتبط بأي حادث يحصل كونها مدربة على أحدث أساليب قتال حرب الشوارع وبإشراف أميركي مباشر.

ويصل عديد عناصر جهاز المخابرات إلى 10 آلاف عنصر متخصص بالمعلومات الداخلية والخارجية، أما جهاز الأمن الوطني فيبلغ تعداد عناصره نحو 13 ألفاً لكنه مازال يؤدي عمله من دون قانون ويرتبط برئيس الوزراء الذي كلفه بمهام توفير قاعدة بيانات ومعلومات عن جميع السكان.

النفوذ الإيراني في الحشد الشعبي

بموازاة تلك الأجهزة أتاح ظهور تنظيم “داعش” في 2014 وفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيد علي السيستاني بروز الحشد الشعبي الذي يضم بالاغلب فصائل شيعية مسلحة بعضها يرتبط بعلاقات وثيقة بإيران وخضع لإشراف وتمويل من الحرس الثوري الإيراني.

وبلغ عدد عناصر الحشد الشعبي قرابة 120 ألف بألوية مستقلة تنتشر على الحدود ومحافظات تشهد توتراً أمنياً، ومع أن هذا التشكيل يخضع رسمياً لإشراف رئيس الوزراء، إلا أنه فعلياً له خصوصية تقترب من الاستقلالية بالقرار ولها القدرة على فرض رؤيتها ورغباتها في القضايا ذات البعد الستراتيجي ومنها مسألة مستقبل الوجود الأميركي في العراق.

وتعمل إيران من خلال بعض الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي على تثبيت نفوذها في العراق والتدخل برسم السياسات العامة خصوصاً أن لتلك الفصائل واجهات حزبية لها تمثيل سياسي مؤثر يتيح لها الاشتراك بصنع القرار السياسي أو حتى فرضه بقوة السلاح الذي تملكه.

وبدأ الحشد الشعبي ودوره السياسي والأمني يتبلور ويتحول نحو مبدأ مواز للقوات الرسمية على غرار الحرس الثوري الإيراني، بل تجاوز دور القوات الرسمية من خلال دخوله في ميدان العمل الاقتصادي والتجاري وحتى الاستثماري الذي يدر عليهم عائدات مالية ضخمة إلى جانب الميزانية الكببرة المخصصة من قبل الحكومة، ما يجعله يستغني عن أي دعم إيراني كان قائماً لبعض الفصائل خلال سنوات ما قبل تشكيل الحشد سيما أن إيران تعاني خلال السنوات الأربع الماضية من ضائقة مالية على خلفية العقوبات الأميركية عليها.

وتدخل قوات البشمركة الكردية من ضمن الأجهزة الموازية، ومع أنها على ملاك قوات الجيش ووزارة الدفاع كونها تسمى (حرس الإقليم) وترتبط بالمنظومة الأمنية الوطنية لكن التنسيق ليس بالمستوى المطلوب.

الكاظمي والقرار الأمني

ويسعى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى الحد من تأثير القرار السياسي لقادة الأحزاب القوية على القرار الأمني بعد أن أجرى منذ توليه منصبه سلسلة من التغييرات في قيادة القوات المسلّحة بتعيينه ضباطاً يوصفون بالمهنيين في مواقع حساسة ولجأ إلى عدة عمليات أظهرته بمظهر من يتحدى الميليشيات، التي بلغت درجة كبيرة من التغول على حساب الدولة وأجهزتها الرسمية.

ويبرز تسييس الأجهزة الأمنية من خلال دمج المليشيات الذي قادته الولايات المتحدة بعد إسقاط نظام صدام حسين والذي استمر لاحقاً من خلال تطويع الآلاف من عناصر الأحزاب في تلك الأجهزة وتحول تشكيلات منها إلى موالاة أحزاب معينة أو اعتبارها محسوبة عليها، ما وضع العديد من تلك التشكيلات في موقع الاتهام أثناء معالجتها لملفات وحوادث أمنية.

لكن التحدي الأبرز الذي لم تنجح حكومة الكاظمي بحسمه حتى الآن، يتعلق بملف قتلى الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضد حكومة عادل عبد المهدي في تشرين الأول (اكتوبر) 2019 وهو ملف ظل يراوح مكانه رغم أن الاغتيالات لم تتوقف حتى بعد إخماد الانتفاضة واختلط فيه السياسي بالأمني، إذ تظهر أرقام الحكومة مقتل 565 شخصاً من المتظاهرين وأفراد الأمن خلال موجة الاحتجاجات بينهم العشرات من الناشطين الذين تعرضوا للخطف والاغتيال على أيدي مجهولين.

ويحاول الكاظمي بخبرته التي امتلكها خلال إدارته لجهاز المخابرات ورغم جسامة المهمة، ابعاد التشكيلات والوزارات والأجهزة الأمنية عن التأثر بالتجاذبات السياسية والخلافات بين الساسة، الذين تتوزع ولاءات العديد من القيادات العسكرية البارزة عليهم والعمل على وحدة القرار الأمني وإبعاد التأثيرات الإقليمية عن الساحة الداخلية.

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً