المسلم المتسلط مكمن الداء

أحمد عدنان
أحمد عدنان

قبل أكثر من عام، وصلني مقطع مرئي على “واتساب”، يفترض أن من أرسله ينتمي إلى النخبة الدينية، وكان المقطع يمجّد سلطاناً عثمانياً، وموضوع التمجيد لا تنمية أرساها السلطان ولا مظلمة رفعها، بل أنه أهان سفيراً أوروبياً، واستند المحتوى إلى مسلسل تركي نال الصيت والرواج.

اتصلت في حينه بمرسل المقطع، وقلت له إن المسلسل الذي يستند إليه المحتوى جانب الأمانة التاريخية لأسباب درامية وترويجية مفهومة، والأهم من ذلك أنني لا أجد عظمة في تصرف السلطان، فالإهانة التي اقترفها السلطان – إن صحت – لا تمت الى مكارم الأخلاق التي أمر بها الإسلام، ولو تأمل المرسل – أو القارئ – آيات القرآن الكريم لوجد أن الآيات التي تدعو الى مكارم الأخلاق تفوق الآيات التي تتحدث عن مواضيع أخرى بما في ذلك العقائد والفقه وأركان الاسلام نفسها، وسيرة الرسول الأكرم انعكاس دقيق لتعاليم القرآن، وفعل السلطان لا صلة له بالتوجيه القرآني أو بالسلوك النبوي. فلامني المرسل على تفكيري، ويكفي السلطان أنه “أعز الاسلام”، ولفت نظري في رده الى أن شريحة من الناس تعرف عزة الإسلام بإذلال الآخر واهانته، وكأنه لا يستقيم أن يعتز الجميع مصداقاً للآية الكريمة “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، بل إن تصوراً شائعاً يناقض الآية تماماً: لا ترحموا العالمين، نكلوا بهم!.

هذه المحادثة البسيطة تفتح الباب لنقاش عريض، فإن كانت النخبة المثقفة تحدثت كثيراً – ماضياً وحاضراً – عن تجديد الخطاب الديني، وأشار مؤخراً الأديب عبدالرحيم كمال إلى زاوية جديدة: “تجديد الخطاب الروحي قبل تجديد الخطاب الديني”، إلى أن حوادث عدة معاشة – صغيرة وكبيرة – تدعو كما قال جمال البنا إلى تجديد الإسلام كله و”إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية”، فالحديث النبوي واضح وصريح “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” وليس خطابها الديني فقط، والمفكر الراحل وإن كان شقيق مؤسس جماعة الإخوان إلا أنه ليس إخوانياً كما هو معروف، وكانت السنون الأخيرة من حياته ثرية بالأفكار الشجاعة وبالخصومة مع جماعات الإسلام السياسي.

المسلمون ليسوا بحاجة إلى تجديد الخطاب الديني فقط، أو الروحي فقط، فلا يجوز إغفال إصلاح بقية الخطابات، وعلى رأسها: الخطاب السياسي، والأهم منه الخطاب التربوي والتعليمي والخطاب الأخلاقي، واستخدام مصطلح “خطاب” هنا هدفه التبسيط والمسايرة.

يعيش المسلم في منظومة معرفية وقيمية تنتج إنساناً متسلطاً، من الأسفل إلى الأعلى، والأمثلة على مستوى القاعدة متاحة بغزارة في وسائل التواصل الاجتماعي إسلامياً، فمن أجل الانتصار لرأي لا يتورع أحدهم عن قذف وافتراء وتكفير، وتفسير الحرية التي أتاحتها وسائل بحرية القذف والافتراء والتكفير، ولو توقف الأمر هنا لتحدثنا عن السلوك الفردي، لكن أن يجد هذا السلوك الشائن التصفيق والقبول والتأثر، فنحن هنا أمام مشكلة عامة، والخطير جداً أنها على مستوى القاعدة، أي أن شريحة ملحوظة من الناس لا تتورع عن مخالفة الإسلام بذريعة نصرة الإسلام!، وتتصور أنها تعلي مكارم الأخلاق باقتراف رذائل الأخلاق!، والخطورة مكمنها التوارث لهذا السياق، لم يأت من فراغ ولن يذهب إلى العدم.

والحديث عن السياسة أكثر تعقيداً بسبب التداخل بين العروبة والإسلام، فهناك مشكلتان، الظاهر منها، انجذاب مسلمين الى الحاكم المتسلط أو الى الحكم المتسلط (وبالتالي إعادة إنتاجهم)، كمن يعتبر “طالبان” – و”داعش” وأخواتها – نموذجاً إسلامياً على المستوى السني أو ولاية الفقيه على المستوى الشيعي.

أما المشكلة المخفية، فتتعلق بالتحاق مسلمين بجماعات الإسلام السياسي، فللوهلة الأولى يبدو التفسير المنطقي أن الناس تريد الفوز بالجنة فتنصاع الى ما تطنه أمراً ربانياً، لكن سلوك هذه الجماعات – مما قرأناه وسمعناه وشاهدناه – يشير إلى أن المسلم المنتسب الى تلك الجماعات يريد فسحة يمارس من خلالها التسلط والوصاية على غيره، والأمثلة على ذلك معروفة: محاولة فرض التغيير في سلوك الأهل ثم الحي ثم الدولة، وكان المفكرون الأساتذة يقولون لنا ان هؤلاء يتوقون إلى التغيير، وبسبب انسداد الفضاء العام لجأوا إلى التغيير بأساليب فجة عبر سلطان الدين أو عبر سلطان السلاح، ولكن أساتذتنا لم ينتبهوا إلى تسلط هذا المسلم أو الإسلاموي في أوروبا وفي الأميركيتين، فإن كانت المنظومة العربية أو الإسلامية تفرض عليه بعض السياقات، فغالباً في الخارج لن يفرض عليه أحد ما لا يريد ولا على غيره، لكن قضيته ليست أن يفعل ما يريد ولا يفعل ما لا يريد، مشكلته وقضيته أنه يريد أن يفرض على غيره ما لا يريده هذا الغير، والدليل على ذلك الهرولة إلى إنكار الحريات، وإلى إلغاء منطقة الاختلاف الفقهي لمصلحة التضييق.

الخطير الذي كشفته وسائل التواصل الاجتماعي هو أن أبناء هذه المنظومة أو الثقافة، ولو لم يكونوا إسلامويين (ولنقل يساريي الممانعة وقومييها وبعثييها مثلاً)، يجنحون إلى السلوك نفسه، فبدلاً من التكفير – على سبيل المثال – هناك التخوين، والارتياح إلى التحريم يوازيه الارتياح إلى المنع، وتقديس أشخاص في ضفة يقابله تقديس أشخاص في ضفة أخرى، فضلاً عن التلذذ بالتحريض وبتشويه السمعة، وهناك فريقان – على الأقل – نموذجهما من الماضي – ولا مكان للمستقبل – الأول قبل 1400 سنة والثاني قبل 70 سنة، وكأننا – بالضبط وبدقة – أمام نسخ ملونة للثوب الرديء والبالي والرث نفسه (أرجو قراءة كتاب سليمان الفرزلي: حروب الناصرية والبعث)، لماذا هناك بيئة/ ثقافة تأنس بالتسلط وبالاستبداد وتظنه سبيلاً خلاصياً على المستوى العام وعلى المستوى الخاص؟.

الخلاصة، إن التجديدات الكثيرة التي يحتاجها العرب والمسلمون، وينادي بها بعضهم، لم تعد كافية، فالمشكلة ببساطة وبصراحة ليست في شكل ولا في صورة ولا في مادة خام، بل هي أعمق وأشمل وأفدح وأخطر من كل ذلك، “إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”.

شارك المقال