سقى الله أيام زمان!

اكرم البني
اكرم البني

والزمان عام 1954 حين آثر الرئيس السوري أديب الشيشكلي تقديم استقالته كي يجنب البلاد الحرب الأهلية، والجيش السوري الانقسام، بعد أن علم بانقلاب مجموعة من الضباط عليه وتقدمهم صوب العاصمة دمشق. لقد اختار التنازل عن السلطة والمنفى طوعياً، وذلك على الرغم من امتلاكه فرصة استخدام القوة ضدهم، فقد كان مسيطراً على قسم من الجيش يدين له بالولاء، خاصة من سلاح المدرعات والطيران! واللافت أنه ختم رسالة استقالته والتخلي عن الحكم بعبارته الشهيرة: “لن أسمح لجندي سوري أن يوجه بندقيته لجندي آخر بسببي” مقدراً كما أثير وقتئذٍ، البنية الهشة للمجتمع، والتنافسات المناطقية التي كانت تحكمه، وما يحيط بالوطن من أطماع خارجية، تضع مستقبله في موقع الخطر، في حال دفعت الأمور صوب مسارات حادة ودموية.

ما يحصل هذه الأيام في سوريا هو النقيض تماماً، حيث يبدي رأس النظام إصراراً شديداً على فرض نفسه رئيساً من جديد في انتخابات يدرك الجميع صوريتها وهزليتها، وأنها تتم فوق دماء الناس وأرواحهم وآلامهم، تحدوها عشر سنوات من الاستباحة والقتل والاعتقالات والتشريد، والأنكى أن هذا الإصرار، الذي ينتهك حق الشعب السوري في تقرير مصيره واختيار السلطة القادرة على معالجة ما حصل من خراب ومآسٍ، يفضي إلى التفريط بما يمكن أن يتوفر من فرص دولية لإعادة الإعمار، وتالياً لاستعادة وجه الوطن من براثن الاحتلال والتفكك وإنقاذ شعب جائع من جحيم المعاناة المعيشية والإنسانية.

ليس في الطغمة السورية الحاكمة من يتحسب اليوم لشيء سوى الحفاظ على منصبه وامتيازاته، وليس هناك من يمتلك الشجاعة ليضحي بنفسه أو على الأقل بمنصبه، ليمنح الشعب فرصة جديدة للعيش وليعيد للوطن كرامته، فالقيمون على السلطة لا يهمهم الشعب والوطن إلا بقدر ما يعزز تسلطهم وفسادهم وامتيازاتهم… سلطة أوصلت البلاد والعباد إلى الحضيض وجعلت غالبية السوريين جوعى وفي حالة عوز وفقر إن داخل البلاد أو بين المشردين واللاجئين، تاركة ملايين الأطفال عرضة للجهل والمرض والضياع… سلطة استجرت، دفاعاً عن كرسي الحكم، مختلف أشكال التدخل الخارجي، فمكنت الأجنبي، الروسي والإيراني، من التحكم بالبلاد وإخضاع مستقبلها للعبة التنافس الإقليمي والعالمي، وسهلت تنامي مجموعات إسلاموية إرهابية غريبة عن مجتمعنا لتعيث بأجندتها المتطرفة، فتكاً وتنكيلاً بثورة السوريين وحيواتهم… سلطة ارتضت تغيير خارطة سورية إرضاءً لصديقها السابق أردوغان، فحذفت منها لواء اسكندرون السليب، واكتفت بتسيير مظاهرات باردة، رداً على اعتبار الجولان المحتل جزءاً من أراضي إسرائيل… بينما ما كان لأحد أن يتجرأ ويستسهل التفريط بقطعة أرض من بلده، لولا الوضع المأسوي الذي أوصلت السلطة، الوطن والمجتمع إليه.

واستدراكاً، فإن فضيحة صغيرة أو إهمالاً وتقصيراً في أداء الواجب هو سبب كاف يدفع غير مسؤول في غالبية البلدان الغربية إلى تقديم استقالته ومنح غيره الفرصة للسير بالشأن العام نحو الأفضل، أما في بلدنا فلا تأبه رموز الطغمة الحاكمة أو تشعر بأي ذنب عن مسؤوليتها تجاه الكارثة الإنسانية التي وصلنا إليها، بل ماذا يمكن أن يوصف سلوك نظام رفع جهاراً شعار “إما أنا أو أحرق البلد” وعمل قاصداً كي يكون صوت السلاح هو الصوت الوحيد المسموع بكل ما يمكن أن يخلفه من قتل وتدمير؟ وكيف يمكن أن ينظر إلى ما حل بالجيش الوطني، حين أتخم بالفساد والطائفية ووظف ضد الشعب، وسخرت أسلحته الفتاكة، ليس لمواجهة العدو الخارجي، بل للنيل من إرادة سوريين طالبوا بحقوقهم المشروعة؟ والأسوأ ماذا يمكن أن يقال عن نظام رفض تقديم التنازلات البسيطة أمام شعبه واستسهل دفاعاً عن كرسي الحكم تشجيع وشحن روح التنابذ، وتحويل البلاد إلى مرتع للصراعات البينية، ولمعارك طائفية وأثنية، محفوفة بتفشي مفزع للغة الحقد والانتقام، وبإنتاج مقولات بغيضة تدعو لتدمير الآخر المختلف وإفنائه، أقل ما توصف بأنها، غير مألوفة إنسانياً، وتكشف عن توحش وهمجية غريبة عن روح الشعب السوري وتاريخه.

والزمان أيضاً عام 1962 عندما اعترض بعض المحتجين موكب خالد العظم، وكان رئيساً للوزراء وقتئذ، خلال زياراته لإحدى المدن السورية، ورشقوه بوابل من البندورة والبيض الفاسد، وقتئذ لم تتأخر قوات الأمن عن محاصرة المحتجين واعتقال بعضهم، ولكن خالد العظم لم يرحه ذلك، وبادر وهو لا يزال في القطار العائد إلى دمشق بطرح السؤال على مرافقيه: ماذا فعلتم بالمحتجين؟ فكان الجواب، أنهم قد أودعوا السجن.. فأمر بإطلاق سراحهم فوراً، رافضاً كل الذرائع التي سيقت لتسويغ الاعتقال “بأنهم قد أساؤوا لشخصه ولهيبة الدولة ومكانتها، وبأن ما قاموا به سيشجع آخرين على مزيد من الإساءة والشغب”.. واستدرك محتجاً “أين حق الناس إذن في التعبير عن مواقفهم وعما يجيش في نفوسهم” مضيفاً بحزم ” أن الرد على ما ارتكبوه ليس القمع بل المزيد من الديمقراطية، المزيد من الديمقراطية”.

اليوم، وفي حضرة هذا السلوك النبيل لخالد العظم، بأي عين يمكن النظر إلى هذا التوغل السلطوي الوحشي، بل المزيد من التوغل الوحشي، في القهر والفتك لسحق بشر مسالمين… إلى الرصاص الحي الذي تم توجيهه إلى صدور الفتيان العارية في المظاهرات السلمية التي عمت أرجاء البلاد لشهور عديدة… إلى التصعيد العنفي بالقصف والتدمير العشوائيين واستخدام الأسلحة المحرمة لقتل وتشريد الملايين من السوريين… إلى ذاك التغييب القسري والاعتقال على الشبهة والمحاكمات الميدانية وما سرب من تفنن سلطوي في ابتكار أشنع وسائل القهر وأكثرها رعباً لتعذيب السجناء وإذلالهم وقتلهم. وتالياً إلى مئات آلاف الأسر التي لا تزال تبحث عن أبنائها المفقودين في السجون والمعتقلات… وقبلها إلى عشرات آلاف المعتقلين الذين دمر النظام أغنى سنوات شبابهم في السجون بذريعة “النيل من هيبة الدولة ” … ألا… سقى الله أيام زمان!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً