معقول؟

صلاح تقي الدين

إثنان وعشرون يوماً بقيت على نهاية “العهد القوي” الذي لم يؤت ثماره إلا خراباً على جميع المستويات المعيشية والنقدية والصحية والتربوية والاجتماعية، لكن الأسوأ هو انهيار الدولة بكل ما في الكلمة من معنى، فالمؤسسات الرسمية لم تعانِ يوماً مثلما عانت ولا تزال منذ أن ابتلي لبنان برئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، بحيث أصبحت ساعة الدولة تسير وفقاً لتوقيته، فهل هكذا تبنى الأوطان وتدار البلاد؟

ليس في الأمر أي تجنٍ على باسيل، بل أسئلة مربوطة بوقائع ممارسته السياسية طيلة السنوات الست الماضية، فأصبح اسمه وشروطه التعجيزية لازمة ترافق كل الاستحقاقات الدستورية، التي يفترض أن تسير وفقاً لما تنص عليه الحياة البرلمانية الطبيعية، لكن ما جرى ويجري، يشي بأن كل الأمور محصورة بموافقة باسيل.

لا حكومة في الأيام القليلة المتبقية على نهاية “العهد القوي”، لماذا؟ هذه هي النتيجة الطبيعية على الأقل للفرملة التي تعرّضت لها كل الجهود المبذولة بالواسطة والمباشر من “حزب الله” للضغط باتجاه تشكيل حكومة قبل نهاية العهد، تجنباً لما بشّر به الصهر الميمون من رفض تسليم حكومة تصريف الأعمال صلاحيات الرئاسة وكالة وبداية فوضى دستورية.

ولأن الصهر الميمون يفرض شروطاً على الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، لا يستطيع لا ميقاتي ولا أي شخصية سنية تحترم نفسها القبول بها، وأن تصبح رئاسة الحكومة مرهونة لصالح باسيل وتياره، في خرق فاضح لأبسط قواعد احترام مقام الرئاسة الثالثة، ما دفع المعنيين وفي مقدمهم مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى انتقاد هذه التصرفات التي قد توصل إلى مكان غير محمود.

هل يعقل أن باسيل يريد من ميقاتي تعهّداً بإقالة حاكم مصرف لبنان وتعيين شخصية مقربة منه، وأن يمرّر مرسوم تجنيس عدد من الرعايا الأجانب، وأن يفرض تعيين مجلس عمداء الجامعة اللبنانية ويضم أسماء تدين له بالولاء بغض النظر عن كفاءاتها العلمية، وأن يوافق على توقيع مرسوم ترفيع ضباط دورة العام 1994 المعروف باسم “دورة ضباط عون”، وأن يشرط موافقته على تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء بتوقيع ميقاتي على خطة وضعها باسيل ووافق عليها من بعده وزراء الطاقة المدارون بالريموت منه، وتنص على إنشاء معمل “سلعاتا”؟ كل هذه عينة بسيطة من لائحة الشروط التي وضعها باسيل كي يمنح “الجنرال” توقيعه على التشكيلة الحكومية التي قدّمها ميقاتي في اليوم الثاني لانتهاء استشاراته النيابية غير الملزمة في 29 آب الماضي.

ليس أن هذه الشروط غير مقبولة جملة وتفصيلاً من ميقاتي، بل هي خرق فاضح لما يسمّى الديموقراطية التي يفترض أننا نعيش في دولة تحمل هذه الصفة، وخرق أكبر لدستور هذه الدولة الذي وضع في الطائف وحدّد بوضوح كيفية تشكيل الحكومات، وإن كانت هناك “وجهة نظر جريصاتية” جعلت توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم تشكيل الحكومة رهناً “بمشاركته” في تشكيلها.

كل هذه الشروط التعجيزية جعلت من الآمال التي انعقدت في الأسابيع الماضية على احتمال تشكيل حكومة قبل نهاية العهد تتلاشى، على الرغم من أن بعض المحللين لا يزال يراهن على إمكان تذليل العقد في الفترة القليلة المتبقية قبل دخول مجلس النواب حكماً في مرحلة انتخاب رئيس الجمهورية، ما يعطّل دوره التشريعي ويصعّب إمكان مثول الحكومة أمامه لنيل الثقة، وهذه مسألة يقول رئيس مجلس النواب انه قادر على حلّها انطلاقاً من مقولته الشهيرة “المجلس سيد نفسه” وهو من يفسّر الدستور.

أمّا في انتخابات الرئاسة، فحدّث ولا حرج. لا يرى باسيل أي شخصية مارونية تستحق نيل قصب السباق إلى قصر بعبدا غيره، فهو ناهيك عن أنه “لم يترك للصلح مطرح” مع السنة والدروز ونصف الشيعة الذين عاداهم جميعاً، حاول ويحاول يومياً تحطيم صورة أي مرشح ماروني للرئاسة، إذا كان هذا المرشح قوياً في وجهه، أو يشترط أن يكون “صانعاً” للرئيس خصوصاً وأن الوصول إلى قصر بعبدا أصبح بالنسبة إليه مثل “حلم إبليس بالجنة”.

ولهذا السبب، صار الاقتناع الغالب بأننا على الطريق إلى الشغور الرئاسي الحتمي، لأن باسيل والفريق الذي ينتمي إليه ويقوده ويسيّره “حزب الله” لم يتفق بعد على اسم الشخصية التي يجب أن يخوض بها انتخابات الرئاسة، وإن كان الاقتناع الضمني هو السير برئيس تيار “المردة” الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، لكن العقبة أمامه اسمها جبران باسيل.

فالصهر الميمون يرفض رفضاً قاطعاً القبول بفرنجية، لغاية اليوم، علماً أنه على استعداد على الأرجح ليعود إلى التوافق مع خصمه الآخر رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ليشكّل معه فريقاً متضامناً لرفض وصول فرنجية إلى بعبدا على قاعدة أن “المصيبة تجمع”، ففرنجية بالنسبة الى باسيل وجعجع على السواء “مصيبة”.

إذاً، بانتظار “موافقة” باسيل، لا رئيس للجمهورية. هذه هي اليوم حال لبنان الذي يسير على توقيت ساعة “الصهر” وإذا أردنا العودة بالذاكرة إلى أيام شهدت عزّ لبنان وازدهاره، نستعيد أسماء رجال دولة مرّوا في تاريخه، فلا نستطيع إلا الترحّم على أيام كميل شمعون وفؤاد شهاب، صائب سلام ورشيد كرامي، كمال جنبلاط والياس سركيس، ونقترب من الكفر بالأيام التي أنتجت لنا جبران.

شارك المقال